عدالة معلقة في غزة.. مصير اموال المواطنين بين انهيار القضاء واختفاء بنك الانتاج الموازي
نشر بتاريخ: 2025/12/07 (آخر تحديث: 2025/12/07 الساعة: 06:23)

منذ انقلاب حركة حماس وسيطرتها على قطاع غزة في منتصف عام 2007 انقسم النظام القضائي الفلسطيني إلى جهازين، احدهما رسمي في الضفة الغربية والآخر تشكل في القطاع كسلطة امر واقع. هذا الانقسام لم يبق حبيساً للسياسة، بل تمدد ليصل إلى انقلاب في تفاصيل الحياة اليومية للمواطنين. فالمحاكم التي كان يفترض ان تكون ملاذاً آمناً لطالبي الحق تحولت إلى جزء من منظومة حكم موازية، وإلى قناة مالية تستقبل الرسوم والتأمينات والغرامات عبر بنك غير رسمي عرف بما يسمى بنك الانتاج.

هذا البنك الذي ادارته جهات مالية تابعة للحركة عمل خارج سلطة النقد الفلسطينية ولم يخضع لرقابة مصرفية قانوناً. ولا وفق ما يعرف بنظام إدارة البنوك والمصارف في العالم، ومع مرور الوقت اصبح بوابة اجبارية لكل من يلجأ إلى القضاء، اذ لم يكن المواطن قادراً على تحريك قضية نفقة او ارث او تعويض الا بعد ايداع تأمين القضية حصراً في هذا البنك الموازي. وهكذا وجدت آلاف الاسر نفسها مضطرة للتعامل مع مؤسسة مالية لا تشبه البنوك القانونية ولا تمتلك سجلاً معتمداً او حماية مصرفية.

ولم تكن هذه الايداعات رمزية او بسيطة. فقد وصلت ايداعات بعض المواطنين خاصة في النزاعات التجارية ونزاعات الأملاك والأراضي إلى مئات آلاف الدولارات نتيجة نزاعات تجارية او قضايا ارث واسعة، بينما امتلك كثيرون غيرهم حقوقاً تراوحت بين عشرات آلاف الدولارات كانت مودعة كتأمينات وضمانات قضائية. وعند جمع هذه الايداعات المتراكمة يتضح ان اجمالي اموال المواطنين وحقوقهم المحتجزة في بنك الانتاج الموازي يقدّر بعشرات ملايين الدولارات، وهو رقم يعكس ضرراً واسعاً ويحوّل القضية من نزاعات فردية إلى ازمة مالية واجتماعية شاملة.

ومع تضخم هذه الارصدة، تصبح الجهات التي ادارت هذا النظام مطالبة قانوناً برد الاموال إلى اصحابها. فالمسؤولية لا تقع فقط على ما يسمى بمجلس القضاء الاعلى في غزة ومنظومة القضاء والنيابة، بل تمتد إلى قيادة حركة حماس اينما كانت، وجميع مسؤولي بنك الانتاج، وكامل المنظومة المالية التابعة للحركة. فهذه الجهات هي التي فرضت الايداع في بنك غير رسمي، وهي التي اعتمدت ايصالاته، وهي التي ربطت مصير القضايا وحقوق الناس بمنظومة مالية لا تستند لأي قانون.

الخطر الحقيقي لم يكن في مال ضائع فقط، بل في اندماج القضاء نفسه داخل بنية مالية خارج الاطار القانوني. فالقاضي الذي ينظر في النزاع هو ذاته من يطلب من المتخاصمين الايداع في بنك غير معترف به، وهذا التداخل ازال ابسط قواعد استقلال القضاء ومنح السلطة التنفيذية نفوذاً مباشراً على موارد الناس وحقوقهم.

ثم جاءت اللحظة الفاصلة بعد احداث السابع من اكتوبر وما تبعها من انهيار شبه كامل للمنظومة الادارية والقضائية في القطاع. ففي ايام قليلة اختفت المؤسسات التي كانت تدير هذه الملفات، وتلاشى الاطار الوحيد الذي كان يمنح ايصالات الايداع قيمة عملية. ومع ذوبان شبكة بنك الانتاج الموازي بقيت حقوق المواطنين معلقة بين المجهول والفراغ بلا جهة رسمية تتحمل مسؤوليتها، رغم ان المسؤولية ما زالت قائمة على كل من انشأ هذا النظام واداره واستفاد منه بشكل شخصي وجماعي.

اليوم يقف آلاف المتضررين امام سؤال مشروع. من يعيد إليهم اموالهم. فلا سلطة النقد مسؤولة عن بنك غير مرخص، ولا البنوك الرسمية تعترف بوثائق صادرة عن كيان موازي، ولا توجد محاكم عاملة قادرة على جمع الملفات والتحقيق في مصير الارصدة. وهكذا تحولت الحقوق إلى اوراق ضائعة، وإلى معاناة يومية لاسر فقدت ضماناتها القانونية وحقوقها المالية.

ورغم هذا الواقع فإن استرداد الحقوق ليس مستحيلاً، بل مؤجلاً إلى حين ظهور بنية حكم موحدة وقضاء مستقل. ويوم تعود مؤسسات غزة سيواجه اي جهاز قضائي جديد اول اختبار حقيقي امام ملف بنك الانتاج الموازي. فلا بد من لجنة مستقلة تجمع ما بقي من السجلات، وتستمع إلى المحامين والمتضررين، وتحقق في حجم الاموال التي دخلت إلى هذا البنك، وتحدد المسؤوليات بما يشمل القضاء السابق وقيادة الحركة ومنظومتها المالية، ثم تضع آلية لتعويض الناس بإعادة مالهم كاملاً .

إن ملف بنك الانتاج الموازي ليس قضية مال فقط، بل قضية عدالة وكرامة وحقوق. فالقضاء عندما يتحول إلى اداة تنفيذية يفقد قدرته على حماية المجتمع، والمواطن عندما يجبر على التعامل مع منظومة غير رسمية يفقد حقه الطبيعي في العدالة. وغزة التي تحملت عبئاً ثقيلاً تستحق ان تسترد حقها، وان يكون قانونها واحداً وقضاؤها مستقلاً، ومال المواطن فيها مصوناً لا يتبخر عند اول ازمة.