فرانشيسكا ألبانيز.. المرأة التي كسرت جدار الصمت وأسقطت توازنات الخوف
نشر بتاريخ: 2025/12/08 (آخر تحديث: 2025/12/08 الساعة: 19:49)

في زمن تتراجع فيه الأمم المتحدة أمام سطوة القوة، ويختزل فيه القانون الدولي إلى بنود بلا أنياب، تأتي شخصية نادرة لتعيد تعريف معنى الاستقلال الأخلاقي داخل المنظومة الأممية، إمرأة اسمها فرانشيسكا ألبانيز. فهي ليست مجرد مقررة خاصة، بل حالة فريدة من الجرأة المهنية دفعت ثمناً شخصياً وسياسياً لأنها قررت ببساطة أن تقول الحقيقة كما هي، لا كما يريدها اللوبي الإسرائيلي وحلفاؤه اليمينيون.

منذ اللحظة الأولى لتعيينها، تحولت ألبانيز إلى هدف لحملات منظمة، لم يكن هدفها نقد تقاريرها، بل إسكاتها. أدركت إسرائيل مبكراً أن هذه الخبيرة الإيطالية لن تكون نسخة أخرى من مسؤولين أمميين يخشون المواجهة. جاءت ألبانيز لتفكيك خطاب قاهر، ولتعري سردية الاحتلال، ولإسقاط ادعاءات طالما استخدمت لتبرير القمع والحصار والقتل.

تقرير لم يغفروا لها صدوره

حين نشرت تقريرها الشهير تشريح الإبادة، لم تكن تعلم أنها ستفتح معركة دولية غير مسبوقة. لم يكتف التقرير بتوصيف عام، بل وضع الاحتلال أمام مرآة قانونية حادة. قدم أدلة دامغة على أن ما يجري في غزة يحمل مؤشرات جريمة إبادةً جماعيةً مكتملة الأركان. استهداف المدنيين، التجويع، تدمير البنية التحتية، والخطاب التحريضي لقادة إسرائيل، كلها عناصر لم يعد ممكناً التلاعب بها أو تغليفها بخطاب سياسي.

كانت تلك لحظة مفصلية، لذلك جاءت الهجمة عليها أعنف مما تعرض له المقرران السابقان ريتشارد فولك ومايكل لينك. صحيح أن فولك واجه اتهامات بالتحيز، وأن لينك ضيق عليه إعلامياً، لكن ما واجهته ألبانيز تجاوزهما. كانت حرباً سياسيةً وإعلاميةً مكتملة، لأن تقريرها زلزل رواية إسرائيلية أريد لها أن تبقى جزءاً من وعي العالم، ولهذا لم ولن يغفروا لها صدور هذا التقرير.

لكن هذه الإسطورة لم تركع لمعادلة الترهيب، رغم الاتهامات والتشهير والتحريض، ورغم تحريك جماعات ضغط تطالب بإقالتها، بقيت ألبانيز واقفة كجبل لا يتزحزح. لم تغير كلمة واحدة من خطابها، لم تتراجع، ولم تساوم. صمودها لم يكن مجرد صلابة شخصية، بل دفاعاً عن معنى العدالة نفسه. كانت تعرف أن الصمت مشاركة في الجريمة، وأن الحياد في قضايا الإبادة تواطؤ صريح.

ألبانيز لم تُردع بالخوف، ولم تغلق فمها هرباً من حملات شرسة. أدركت أن ثمن الحقيقة باهظ، لكنها اختارت دفعه، بدل أن تعيش في ظل تنازلات تقتل قيمة القانون.

تتشكل المفارقات والمقاربات حيث تنتهي الضغوط وتبدأ المواقف، حين نقارنها بالسابقين ريتشارد فولك ومايكل لينك، نرى خطاً واحداً يجمع الثلاثة، وهو الإيمان بأن الاحتلال نظام قمع ممنهج. لكن ألبانيز تختلف بكونها جاءت في اللحظة الأكثر دموية في تاريخ الصراع الحديث.

فولك واجه ضغوطاً قوية، لكنه عمل في مرحلة لم تكن فيها الجرائم متلفزة لحظة بلحظة.

لينك قدم تقارير جادة لكنه لم يواجه حجماً مماثلاً من التحريض المنظم.

أما ألبانيز، فوجدت نفسها أمام مشهد كامل من التدمير والتجويع والقتل، أمام الإبادة، وأمام محاولات دولية لخنق أي وصف قانوني حقيقي لما يجري.

كانت الأكثر صلابة بينهم. لم تسكتها الحملات، بل زادتها إصراراً. أصبحت تقاريرها مراجع موثوقة، تستخدم في دعاوى أمام محاكم دولية، وتعتمد عليها منظمات كبرى في بناء تقاريرها.

فرانشيسكا ألبانيز لم تعد مجرد موظفة أممية، بل صوتاً عالمياً أربك القوى الكبرى لأنها تجرأت على قول ما لا يريدون سماعه. وكلما اشتدت الهجمة عليها، ارتفع صدى صوتها. أصبحت مرجعاً قانونياً، ومصدراً لإعادة بناء أخلاقي لرواية المأساة الفلسطينية.

تقول ألبانيز، بلغة لا مواربة فيها، إن الاحتلال جريمة، والحصار جريمة، والتجويع جريمة، والقتل الجماعي جريمة. والأخطر أن كل ذلك يتم بدعم سياسي من دول تزعم أنها حامية القيم الإنسانية.

واليوم نحن في أمس الحاجة إلى صوت ألبانيز..

نحتاجه لأن العالم انقسم إلى فريق يرى الدم الفلسطيني رقماً، وفريق يرى فيه إنساناً.

نحتاجه لأن الجريمة تبث مباشرة، بينما العدالة تُكمم وتُمنع من النطق.

ونحتاجه لأن صوتها يمثل آخر ما تبقى من استقلالية أممية لم تُشتر ولم تخضع للترهيب.

فرانشيسكا ألبانيز ليست منحازة إلا للقانون وللإنسان المظلوم ضد الظلم. ولهذا، فإن محاولات تشويهها ليست دليلاً على ضعفها، بل برهاناً على قوة موقفها وأثرها الذي لم يعد ممكناً إسكاتهُ.