درب الآلام الفلسطيني من الميلاد إلى الجلجلة
نشر بتاريخ: 2025/12/24 (آخر تحديث: 2025/12/24 الساعة: 19:12)

في ليالي الميلاد المجيد, حين يُفترض أن يُفتح باب الرجاء, يقف الفلسطيني أمام درب آلامه الطويل, لا كذكرى بعيدة ولا كطقسٍ رمزي, بل كحياةٍ يومية مكتظة بالفقد. هنا, حيث وُلد المسيح تحت سلطة القهر, تعود الحكاية لا بوصفها سرداً دينياً, بل بوصفها مرآةً للواقع الفلسطيني المعاصر, من إبادة غزة المدمرة المحاصرة إلى الضفة المثخنة بالجراح..

في غزة, المأساة ليست وجهاً واحداً. هي إبادة مفتوحة تمارسها آلة الاحتلال, قصف, قتل، حصار, وسياسات تجويع تُدار ببرودٍ محسوب, تُحول الخبز إلى امتياز, والماء إلى مكافأة, والدواء إلى ورقة ضغط. وهي أيضاً مسلسل قتل يومي مستمر, لا يتوقف عند مجزرة، ولا يُختتم ببيان كل صباح يحمل رقماً جديداً من الضحايا, وكل مساء يضيف أسماءً أخرى إلى سجل الغياب. القتل هنا ليس حدثاً استثنائياً, بل إيقاع حياة مفروض, يُدار كروتين عسكري, ويُستقبل كخبر عابر في عالم اعتاد المشهد.

وفي الوقت نفسه, يعيش الإنسان الغزي مأساةً أخرى لا تقل قسوة, حين يُترك نهباً لتغوّل داخلي, حيث تُستباح كرامته تحت سلاح عصابات ترعى السلب والنهب, وتحول الفوضى إلى سلطة, والجوع إلى وسيلة إخضاع. ما بين صاروخ يسقط من السماء, ويد تسلب وتنهب ما تبقى في الجيب, يُدفع الفلسطيني ليحمل صليبه وحده على درب الآلام، بلا حماية, وبلا أفق.

الأمهات في غزة لا يندبن أبناءهن فقط, بل يودعنهم على دفعات. طفل يُقتل اليوم, أخ وقريب غداً, جار وصديق بعد غد. الجنازات لا تُعد, والدموع لم تعد تكفي. أطفال ينامون على الجوع, ويصحو بعضهم على أسماء إخوتهم في قوائم القتلى. شيوخ يقفون في طوابير المساعدات كأنهم على عتبة محكمة بلا قاض عادل. هنا يتجسد درب الآلام بأقسى صوره, صليب يُفرض بالقوة, وتُشد مساميره من جهتين, واحدة باسم الاحتلال, وأخرى باسم الضرورة أو عصابات باسم المقاومة المزيفة.

وفي الضفة الغربية, تتخذ المأساة شكلاً آخر. اعتداءات المستوطنين, تغوّل الجيش, اقتلاع الأشجار, هدم البيوت, ومصادرة الأرض, كلها تُنتج ألماً بطيئاً لكنه عميق. القتل هنا أقل ضجيجاً, لكنه حاضر, اعتقالات تنتهي برصاص, اقتحامات تُفضي إلى جنازات, وحياة تُستنزف على الحواجز. القرى التي تُحاصر, والطرق التي تُغلق, والبيوت التي تُفرغ من أهلها, ليست تفاصيل عابرة, بل محطات إضافية على درب الآلام الفلسطيني, حيث يُطلب من الإنسان أن يتألم بصمت, وأن يتكيّف مع الظلم كأنه قدر.

هنا تلتقي الحكاية القديمة بالحاضر. المسيح الفلسطيني الذي سار درب الآلام إلى الجلجلة, لم يكن رمزاً مجرداً, بل إنساناً أعزل واجه سلطة احتلال غاشمة. واليوم, يُعاد المشهد ذاته, لكن بصيغة جماعية. فلسطين, مهد الميلاد, تُساق مرةً أخرى نحو الجلجلة, عبر قتلٍ يومي, وتجويعٍ ممنهج, وإذلالٍ متواصل, لا لأن أهلها اختاروا الألم, بل لأنهم حُرموا من العدالة.

ومع ذلك, فإن درب الآلام لا يُختزل بالموت وحده. فالميلاد الذي سبق الصلب, كان إعلاناً عن عناد الحياة. في غزة, رغم مسلسل القتل اليومي, ورغم الإبادة والجوع والنهب, ما زال الناس يتشبثون بالحياة, يدفنون موتاهم ثم يعودون لحماية ما تبقى من أبنائهم. في الضفة, رغم القمع والاقتلاع, ما زالت الأرض تُنجب من يحرس ذاكرة زيتونها. هذا الإصرار الصامت ليس ضعفاً, بل مقاومة أخلاقية, تقول إن الألم لا يُلغي الحق, وإن الصليب, مهما طال زمنه, لا يُنهي الحكاية.

في هذا الميلاد, لا يحتاج الفلسطيني إلى تعاطف موسمي, ولا إلى خطب مُنمقة. يحتاج إلى اعترافٍ كامل بدرب آلامه, باعتباره نتيجة احتلال قاتل, وبنية داخلية فاسدة تستبيح الإنسان, وصمت دولي يطيل زمن الصلب. حين يُرى المسيح في وجوه أطفال غزة الذين يُقتلون كل يوم, وفي اقتلاع زيتون الضفة ومصادرة أراضيها, والقتل اليومي أيضاً. يستعيد الميلاد معناه الحقيقي, وعداً بأن الظلم, مهما طال, لا يملك الكلمة الأخيرة. وللحق كلمة.