حين يقف القانون في وجه الخراب الصليب الأحمر… إنسانية تُقاوم وحشية الحروب
نشر بتاريخ: 2025/12/26 (آخر تحديث: 2025/12/26 الساعة: 16:55)

في زمنٍ تتآكل فيه القيم تحت أقدام الحروب، وتُداس الكرامة الإنسانية على موائد المصالح السياسية، يبرز القانون الدولي الإنساني كآخر حصنٍ أخلاقي في عالمٍ تتسع فيه رقعة النزاعات وتضيق فيه مساحة الرحمة. إنه القانون الذي يحاول، وسط جنون السلاح، أن يُذكّر بأن الإنسان لا يفقد قيمته حتى في قلب الحرب.

في هذا السياق، انعقدت في مدينة الأقصر المصرية الدورة الإقليمية السنوية للقانون الدولي الإنساني باللغة العربية، التي نظّمتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر بالتنسيق مع جامعة الدول العربية واللجنة القومية للقانون الدولي الإنساني في مصر، بمشاركة خبراء ومسؤولين من خمس عشرة دولة عربية. ستة أيامٍ من النقاشات المكثفة جاءت في توقيتٍ بالغ الحساسية، مع تصاعد غير مسبوق في النزاعات المسلحة حول العالم.

وتكمن أهمية هذه الدورة في انعقادها باللغة العربية، لغة الشعوب التي تعيش في قلب معظم النزاعات المعاصرة. فاللغة هنا ليست مجرد وسيلة تواصل، بل أداة وعي ومسؤولية، تُقرّب مفاهيم حماية المدنيين وأسرى الحرب والجرحى والطواقم الطبية من صُنّاع القرار، وتحوّل القانون من نصٍ نظري إلى ممارسة قابلة للتطبيق.

ناقش المشاركون تحديات خطيرة تواجه القانون الدولي الإنساني، من تعقيد النزاعات المسلحة غير الدولية، إلى استهداف البنى التحتية المدنية، وتراجع احترام شارات الحماية، وصولًا إلى تأثير تكنولوجيات الحرب الحديثة. وهي تحديات تكشف عن فجوة مقلقة بين ما تنص عليه القوانين وما يحدث فعليًا على الأرض، فجوة لا تُردم بالشعارات، بل بالإرادة السياسية والمساءلة والتثقيف المستمر.

وتتجلى خطورة المشهد في الأرقام الصادمة، إذ وثّقت اللجنة الدولية للصليب الأحمر خلال عام 2024 نحو 130 نزاعًا مسلحًا حول العالم، وهو ضعف ما كان عليه قبل خمسة عشر عامًا. نزاعات طويلة الأمد تحاصر أجيالًا كاملة داخل دوّامة العنف والصدمات، وتُفاقم الاحتياجات الإنسانية، وتُهدد ما تبقى من النظام الأخلاقي الدولي.

في عالمٍ تُقاس فيه القوة بعدد الضحايا لا بعدد من تم إنقاذهم، يصرّ الصليب الأحمر على تذكير الجميع بأن الحروب، مهما بلغت وحشيتها، لا تُسقط إنسانية الإنسان، ولا تُعفي أحدًا من المسؤولية. فالقانون الدولي الإنساني ليس بيان نوايا، بل اختبار يومي لضمير الدول والجماعات المسلحة على حدّ سواء.

إن عقد هذه الدورة الإقليمية ليس مجرد نشاط تدريبي، بل موقف إنساني وأخلاقي يعيد القانون إلى بيئته الأكثر احتياجًا له. هنا تتحول المعرفة إلى التزام، والتدريب إلى فعل مقاومة صامتة في وجه الفوضى، وتتحول اللغة إلى مسؤولية أخلاقية في زمن الانتهاك.

هكذا يواصل الصليب الأحمر أداء دوره التاريخي، لا كوسيطٍ محايد فحسب، بل كضميرٍ حيّ يرفض تطبيع الجريمة، ويذكّر بأن حماية الإنسان في زمن الحرب ليست خيارًا انتقائيًا، بل الحدّ الأدنى من العدالة.

حتى في قلب الحرب… يبقى الإنسان أولًا.