إلى أين تسير تونس، هو سؤال يردده المواطن العادي كما السياسي المعارض، كما المسؤول في الحكم. والجميع في حيرة من هذه الوضعية غير المسبوقة في تاريخ الدولة التونسية منذ استقلالها، ذلك أنّ الأزمة السياسية التي طال أمدها تنتج أزمة اقتصادية خانقة، تجعل البلد يقف على حافة الإفلاس.
في المشهد التونسي هناك أكثر من مسألة معقّدة، أدت إلى الوضعية الآنية، دون القدرة على إيجاد حل مناسب. فعلى المستوى السياسي، بلغت القطيعة بين المؤسسات الثلاث خط اللاعودة، فمؤسسة رئاسة الجمهورية حسمت موقفها من الحكومة الحالية ومن مجلس نواب الشعب، وقالت بصريح العبارة في أكثر من مرّة إن الرئاسة لن تنخرط في ما أسمته اختراقاً للدستور ارتكبته كل من الحكومة ومجلس النواب، ولذلك عطلت التحوير الوزاري وكذلك مشروع قانون المحكمة الدستورية الذي صادق عليه نواب الشعب. وفي الوقت ذاته تم تعطيل كلّ محاولات الوساطة، التي ينهض بها اتحاد الشغل واتحاد الصناعة والتجارة، ما جعل المشهد السياسي يشهد حالة عطالة غير مسبوقة. وكلمة السرّ في كل هذا هي الطرف السياسي الذي يوجه له رئيس الجمهورية صورايخه ونعني به "حركة النهضة" التي يلمح إليها الرئيس في كل مرة كونها تتستر على الفساد وتريد أن تكون مؤسسة الرئاسة في خدمتها.
حجم الخلافات الذي تذكيه "حركة النهضة" من خلال استهدافها لكل خصومها، عبر "جيوش إلكترونية" تستهدف كل مخالف للحركة، يغذي في الواقع الصراع السياسي، ويجعل الحلول التوافقية أمراً من الماضي. فالمعركة اليوم باتت وكأنها تقوم على فرز ثنائي إما "النهضة" وإما الدولة التونسية العريقة! وغير ذلك فلن يفلح أي طرف سياسي في تخليص البلاد من الوضع الذي انحدرت إليه.
جماعة إخوان تونس حاربوا الجبهة الشعبية في البرلمان السابق، وفي البرلمان الحالي يحاربون الحزب الدستوري الحرّ، ويستهدفون رئيس الجمهورية لأنه لم يوافقهم في ما سماها ألاعيب دستورية، ويناصرون رئيس الحكومة الذي يلبي كل مطالبهم، وهم يسعون إلى أن يكون أداة طيعة في أيديهم، من أجل تمويل "صندوق الكرامة" الذي سيمكن مناصري النهضة من تعويضات مالية ضخمة تصل إلى مبلغ ثلاثة آلاف مليون دينار تونسي (أكثر من مليار دولار)، وقد طالب راشد الغنوشي، رئيس الحكومة بتوفير تمويلات لصندوق الكرامة في رسالة نشرت منذ أيام في الوقت الذي تغرق فيه تونس في الديون والاقتراض، حيث من المنتظر أن يتجاوز الدين العام للدولة التونسية 36 مليار دولار بنهاية 2021. وفي وقت تستعد فيه الحكومة لإطلاق مشاورات مكثفة مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض جديد، يخفف جزءاً من الأعباء الاقتصادية الضخمة، وفي وقت يسلط المانحون ضغوطاً كبرى على الحكومة التونسية بعد أن تفاقم الدين وغابت الإصلاحات الاقتصادية الجذرية.
على المستوى الاجتماعي لا يبشر الوضع بخير، فالحكومة رفعت منذ أيام قليلة أسعار المحروقات بنسبة مرتفعة، ما خلق حالة احتقان جديدة، لأن الحكومة أعلنت أن التعديل في أسعار المشتقات البترولية سيكون شهرياً، وهو ما سيؤثر حتماً على المصنعين والمنتجين وحتى على أصحاب السيارات الخاصة ووسائل النقل العامة. زد على ذلك أنّ الحكومة تعهدت لصندوق النقد الدولي بمباشرة رفع الدعم عن المواد الأساسية، ضمن خطتها للإصلاح الهيكلي للاقتصاد التونسي، الأمر الذي سينعكس سلباً على القدرة الشرائية للمواطنين، وسيزيد من الاحتقان الاجتماعي ومن نسب التضخّم التي تبلغ مستويات قياسية في هذه الفترة.
أكثر من مراقب يقول إن تونس تتجه بسرعة قصوى إلى السيناريو اللبناني، لكن أكثر المراقبين تشاؤماً يرى أن السيناريو التونسي إذا ما تواصل الوضع على ما هو عليه من احتقان سياسي، ومن صراع مناصب على السلطة، سيكون أكثر خطورة من السيناريو اللبناني. السيناريوهات المطروحة الآن في ظل تعطل المسار السياسي وفي ظل الأزمة الاقتصادية، هو المراهنة على التحولات الإقليمية الجارية والتي تتركز على إنهاء حكم الإسلام السياسي، واستعادة الدولة الوطنية لزمام المبادرة ضمن أفق سياسي جديد، سيفتح بالضرورة أبواباً أكبر للاستثمار والتعاون من شركاء اقتصاديين تاريخيين، كان الإسلام السياسي يحول بينهم وبين مساعدة تونس.
الخليج