لا أرى سببًا وجيهًا، يجعل السلطة الوطنية، ترحب بنتائج المؤتمرات المتزامنة التي انعقدت الأسبوع المنصرم في بروكسل لمعالجة الموقف المالي لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين، وفي أوسلو للدول المانحة التي تقدم التمويل لخزينة السلطة والمجتمع المدني.
سياسياً يمكن اعتبار استعداد غالبية الدول التي حضرت في بروكسل، مكسبا من حيث إن المجتمع الدولي يعود ويؤكد التزامه بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بالخصوص.
يتزامن هذا الإقرار العام لمؤتمر بروكسل مع تصويت كاسح للجمعية العامة يؤكد حق فلسطين في السيادة على أرضها وثرواتها، ولكنه ليس التصويت الأول على قرارات تؤكد الحقوق الفلسطينية، وليس القرار الأول الذي يؤكد حق الفلسطينيين في السيادة على ثرواتهم الطبيعية، ولكن كالعادة، يعجز المجتمع الدولي عن تنفيذ قراراته.
إسرائيل لم تبد كثيرا من الاهتمام لا بقرار الجمعية العامة ولا بقرار مؤتمر بروكسل، رغم أنها لم تتخل عن بذل كل جهد لإنهاء دور ومكانة "الأونروا"، وتحويلها إلى عمل إنساني لا علاقة له بالأبعاد السياسية لكنها لا ترى أن الفرصة مناسبة لمضاعفة ضغوطها ونشاطها، خصوصاً بعد أن أعلنت إدارة الرئيس بايدن معاودة تقديم مساهماتها لـ"الأونروا".
الأوضاع المالية لـ"الأونروا"، لا تختلف عن الأوضاع المالية للسلطة الوطنية، حيث يواجه الطرفان أزمة خانقة، الفارق بينهما أن السلطة تسد عجزها المالي من خلال مراكمة المزيد من القروض والديون.
"الأونروا" لا تفعل ذلك ولا تستطيع، إذ يكون الحل دائما محاولة تجاوز العجز من خلال تخفيض نفقاتها والتزاماتها المعهودة للاجئين، وتقليص خدماتها في التعليم والصحة، والإغاثة الاجتماعية والتشغيل.
أزمة السلطة الوطنية المالية الحقيقية ناجمة عن أمرين: الأول، والأساسي يتعلق بالاحتلال، الذي يسرق ثروات الفلسطينيين ويحد من قدرة السلطة على استثمار ثرواتها، وتعزيز استقلالية اقتصادها. وبالإضافة إلى ذلك تقوم إسرائيل بالقرصنة على أموال المقاصة، بذريعة مصادرة ما يوازي المخصصات التي تقدمها السلطة لعائلات الشهداء والجرحى.
منذ تشرين الأول 2019 كانت تخصم إسرائيل من أموال المقاصة ما مقداره خمسة عشر مليون دولار شهرياً ارتفعت بقرار إسرائيلي إلى ثلاثين مليونا في تموز 2021.
لا أحد يعرف كيف احتسبت إسرائيل الخصومات، إذ من غير المعقول أن تكون مخصصات الأسرى والشهداء والجرحى قد ارتفعت إلى الضعف خلال اشهر معدودة.
أما السبب الثاني، فهو برسم مجتمع الممولين عرباً وأجانب، حيث يستخدم المال للابتزاز السياسي، وكل ذلك بتنسيق تقوده وتديره الولايات المتحدة الأميركية.
الدعم العربي متوقف تقريبا لميزانية السلطة، ويتذرع العرب بأنهم يقدمون مساهماتهم لـ "الأونروا"، باعتبارها مساعدة للشعب الفلسطيني.
لم يكن الأمر كذلك قبل سنوات إذ كانت الدول العربية، خصوصاً دول الخليج، تقدم مساعدات لميزانية السلطة، وأخرى كمساهمات في موازنة "الأونروا". وفي الحقيقة فإن المساعدات لـ"الأونروا" تعرضت هي الأخرى للتقطع والتباطؤ ما ساهم في تعميق ازمتها، وكان ذلك تساوقاً مع سياسة ترامب تجاه "الأونروا".
في مؤتمر أوسلو للمانحين، لم تقدم تعهدات بالأرقام للسلطة يمكن الاعتماد عليها، وإنما حصلت السلطة على وعود عامة بزيادة التمويل، وكأن التمويل كان متوفراً لكنه لا يصل إلى مستوى معالجة الأزمة المالية المتفاقمة.
في الواقع فإن إسرائيل، التي تدعي حرصها على السلطة من الانهيار، تحت وطأة الأزمة المالية، قد طالبت المجتمع الدولي بتقديم الدعم المالي، لكنها تواصل تعميق الأزمة من خلال الخصم من أموال المقاصة.
الولايات المتحدة التي وعدت بتقديم الدعم المالي للسلطة لم تفعل ذلك حتى الآن باستثناء ما تقدمه للأجهزة الأمنية.
أما أوروبا الغربية فهي تتذرع بأسباب إدارية وفنية لتبرير توقيف الدعم الكافي للموازنة، وتقدم هي الأخرى وعودا لاستئناف تقديم الدعم العام القادم.
وباستثناء الدعم المالي الذي قدمته الولايات المتحدة لموازنة "الأونروا"، بعد انتخاب بايدن، ولم يرتق إلى مستوى تمكين "الأونروا" للوقوف على أرجلها، فإنها حتى الآن لم تنفذ أياً من الالتزام بالوعود التي قطعتها على نفسها. لم تتم إعادة فتح مكتب المنظمة في واشنطن وبقيت مدرجة على قائمة الإرهاب، ولم يتم فتح القنصلية في القدس، ولا مارست الإدارة الأميركية أي مستوى من الضغط على إسرائيل لوقف الاستيطان أو الانخراط في مفاوضات سياسية مع الفلسطينيين، فيما يتعلق بـ"الأونروا" وحاجاتها المالية، فإن ثماني دول فقط تبرعت بثمانية وثلاثين مليون دولار حتى نهاية العام، وهي غير كافية لصرف مرتبات الموظفين عن شهري أيلول وكانون الثاني كما يقول الناطق الإعلامي لـ"الأونروا" عدنان أبو حسنة.
ثمة تعهدات بتقديم ستمائة وأربعة عشر مليون دولار خلال السنوات المقبلة، مع أن الجمع بين هذه التعهدات والتعهدات متعددة السنوات، القائمة من قبل فيما إذا تم تحقيقها بالكامل فإنها ستعادل 40% من احتياجات الميزانية الأساسية للعام 2022 كما أوضحت رئاسة "الأونروا" في المؤتمر.
يمكن القول في هذه الحالة، إن التعهدات الجديدة، يمكن أن تجعل أوضاع "الأونروا" افضل من العام المنصرم لكنها لا ترقى إلى مستوى معالجة ازمتها، وتمكينها من مواصلة تقديم التزاماتها التقليدية. هذا يعني أن الفلسطينيين بعامة يخضعون لسياسة ابتزاز من قبل المجتمع الدولي، ما يرفع سؤالاً حول أهداف مثل هذه السياسة، طالما أن السلطة تقدم كل ما يلزم في خدمة السلام، ولماذا يواصل الكل التساهل مع السياسات التوسعية والعنصرية للاحتلال؟