تأتي زيارة مستشار الأمن القومي في الإدارة الأمريكية جيك ساليفان، في إطار التحضير لسيناريوهات ما بعد مباحثات فيينا النووية، سواء فشلت، وهذا المرجّح حاليّا، أم أدت إلى اتفاق لا يعجب إسرائيل. ويحمل ساليفان معه مطالب واضحة من إسرائيل بخصوص علاقاتها بالصين، المنافس الأكبر للولايات المتحدة، ومطالب أخرى حول طبيعة التنسيق في المرحلة الحساسة، التي تمر بها مفاوضات فيينا. وتهدف الزيارة أيضا لتشكيل ضغط إضافي على إيران بأنّ ما هو مقبل سيكون أسوأ بالنسبة لها، إن هي أصرّت على مواقفها في المفاوضات، التي تعتبرها الولايات المتحدة «متصلّبة» وتدّعي أنّها فوجئت بها.
أما زيارته لرام الله، بعد تل أبيب، فهي لرفع العتب، وللتأكيد على الموقف الأمريكي الجديد بشأن عدم افتتاح القنصلية في القدس المحتلة، خشية إحراج حكومة بينيت، التي بات من الواضح للجميع أن سقوطها سيؤدّي إلى عودة نتنياهو «البغيض» إلى الحكم. ومن دلائل التهميش المتواصل لقضية فلسطين أنّه لم يرد ذكر كلمة فلسطين، في الإحاطة الإعلامية الأمريكية للصحافيين الإسرائيليين عشية الزيارة، وهي لم تكن ضمن ما نشر من قائمة المواضيع، التي سيبحثها المستشار مع المسؤولين الإسرائيليين. الحد الأقصى للاتفاق الإسرائيلي الأمريكي هذه الأيام، هو العمل على عدم انهيار السلطة الوطنية الفلسطينية لا أكثر.
الموقف، الذي يحمله المسؤولون الإسرائيليون في اللقاء مع ساليفان هو أن على الولايات المتحدة، أن تكون جاهزة بخطّة بديلة في حال فشل المفاوضات، وأن هذه الخطة يجب أن تشمل تشديد العقوبات على إيران أوّلا وفورا، وأن تكون مدعومة بتهديد عسكري لضرب إيران، في حال هي تخطّت الخطوط الحمر النووية، على أن تكون هذه الخطوط باتفاق أمريكي إسرائيلي. وتكتفي إسرائيل حاليا بإعلان «التهديد» حتى من دون نوايا تنفيذ فعلي.
تعوّل إسرائيل كثيرا على ساليفان، وذلك لسببين، الأوّل أنّها تعتبره الشخصية الأقوى في الإدارة الأمريكية، والأكثر تأثيرا في صياغة سياستها الخارجية، وثانيا لأنّه، في نظرها، الأقرب إلى الموقف الإسرائيلي والأكثر إصغاء لها ولهمومها ولمطالبها. ولأنّها تسعى إلى تغيير الموقف الأمريكي في الشأن الإيراني، فهي ترى أن الطريق الأمثل لذلك تكون عبر استمالة الزائر الأمريكي. وبعد أن رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت، لقاء المبعوث الأمريكي حول الشأن الإيراني روبرت مالي، بسبب موقفه اللّين وإصراره على الحل الدبلوماسي، وهو وحكومته يرحّبان بساليفان أيّما ترحيب أملا في أسرلة الموقف الأمريكي من خلاله. يحمل جيك سوليفان معه مطالب أمريكية واضحة من إسرائيل، وفي مقدمتها، تبريد العلاقات مع الصين بالأخص في كل ما يتعلّق بتطوير البنية التحتية والموانئ والتبادل التجاري، في مجالات حسّاسة بالأخص تكنولوجيا المعلومات والتجسس، وكل ما قد يكون له طابع أو استعمال أمني وعسكري. وتضع الولايات المتحدة الموضوع الصيني كشرط مسبق لأي حديث حول إيران. وتطلب الإدارة الأمريكية من إسرائيل أيضا عدم القيام بأي عملية أمنية جدّية طالما تجري المفاوضات، وتعود وتكرر بأن عمليات التفجير والاغتيال في إيران، لم تمنعها من التقدم في مشروعها النووي، بل كانت محفّزا لها للتسريع به.
قد تبدو حرب إسرائيلية ضد إيران مستبعدة، لكنّها ليست مستحيلة، وفي حرب السيناريوهات، من المفيد للعرب أن يخرجوا أنفسهم من معادلة الحرب والتهديد
في المقابل تطرح إسرائيل قضية الخطة البديلة، التي ستعتمدها الولايات المتحدة بعد فشل المفاوضات، وهي تسعى بكل قوّة لمنع التوصل إلى اتفاق مرحلي «أقل مقابل أقل» أي وقف جزئي لإخصاب اليورانيوم مقابل تجميد جزء من العقوبات المفروضة على إيران. وتدّعي بأن تفاهما من هذا النوع سيؤدي إلى تدفّق مليارات الدولارات إلى الخزينة الإيرانية، تُستغل «لتطوير أسلحة نووية وقدرات صاروخية، ولتعميق وتوسيع التمدد في المنطقة، ودعم منظمات معادية لإسرائيل». أمّا الأمريكيون فيرون أن اتفاقا مرحليا، أفضل من الدخول في دوامة فشل المفاوضات، وما قد ينتج عنه من تصعيد سيجبر الولايات المتحدة على البقاء وحتى تعميق البقاء في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما لا تريده بالمرة في هذه المرحلة. لقد دار في الإعلام الإسرائيلي في الأسابيع الأخيرة نقاش علني عن حرب محتملة ضد إيران، شارك فيه مسؤولون سياسيون وأمنيون، وخبراء وجنرالات سابقون. وقد نشرت أخبار عن أن وزير الأمن الإسرائيلي بيني غانتس، أبلغ الإدارة الأمريكية خلال زيارته لواشنطن، أنّه أصدر الأوامر للجيش للتحضير لشن حرب على إيران، في حال فشلت الجهود لردعها ولمنعها من تطوير أسلحة نووية. وتتالت تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت، ورئيس الدولة العبرية يتسحاق هرتسوغ، ورئيس الموساد دافيد برنيع، ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي أفيف كوخافي وجنرالات ووزراء، وكلّها تحمل التهديد نفسه باللجوء إلى الحل العسكري لوقف المشروع النووي الإيراني. هذه التهديدات ليست موجّهة لإيران التي لا تصدّقها أصلا، وهي في كل الأحوال لا تؤثّر في اتخاذ القرار في طهران، بل هي محاولات للتأثير في الولايات المتحدة وفي الدول الغربية لطرح البديل العسكري على الطاولة كخطة بديلة، في حال فشلت المفاوضات. والمقصود هنا هو التهديد، وليس التنفيذ لأن إسرائيل تعلم جيّدا أن الولايات المتحدة لا تريد مثل هذه الورطة، خاصة بعد تجربتها المريرة في «حروب لا تنتهي».
ما يطفو على السطح من نقاش حول البديل العسكري هو، أن إسرائيل غير جاهزة الوقت الحالي للقيام بحرب شاملة ضد إيران، وهناك شبه إجماع بين المحللين، أنّها بحاجة إلى ثلاث سنوات على الأقل لتجهيز قدراتها لتوجيه ضربة عسكرية لبعض المنشآت النووية الإيرانية، وليس لحملة عسكرية واسعة النطاق. ليس لدى إسرائيل اليوم ما يكفي من القاذفات لحمل القنابل الضخمة المعدّة لاختراق المخابئ تحت الأرض، كما ليس في حوزتها ما يلزم من طائرات تزويد بالوقود، ولن تحصل قبل عام 2024 على طائرات تزويد (8 طائرات بكلفة 2.4 مليار دولار). ومن المهم الانتباه إلى أنه إذا زوّدت الولايات المتحدة إسرائيل بكل ما يلزم لضربة عسكرية ضد إيران فهي عمليا توافق عليها. حتى لو افترضنا جدلا أن إسرائيل جدّية في تهديداتها، فالثلاث سنوات التي تحتاجها للتحضير، ستجعل هذه الضربة العسكرية عديمة الجدوى، لأن إيران تكون قد حصلت على ما تريد من قدرات نووية. لذا، هي في المحصّلة تهديدات ونتيجتها الأهم هي، زيادة قدرات الجيش الإسرائيلي بالعتاد والأسلحة، وتخريب لإمكانية التوصّل إلى اتفاق في فيينا.
لقد نشرت الصحافة الإسرائيلية سيناريوهات كثيرة لحرب محتملة، وفي كل هذه السيناريوهات هناك انتهاك لسيادة عدة دول عربية، فضربة جوّية تستلزم عبور الطائرات في الأجواء الأردنية والسعودية والخليجية. وتطرح بعض السيناريوهات استعمال أراضي دول خليجية كمحطّات طوارئ متعددة الأهداف. في كل الأحوال لا يمكن لإسرائيل أن تواجه إيران عسكريا، من دون استغلال أجواء دول عربية، وربما أراضيها ومياهها الإقليمية. وهنا، على الدول العربية، خاصة الخليجية أن تعلن وتلتزم بأنّها لن تسمح باستغلال سيادتها للاعتداء على إيران، قد تبدو الحرب مستبعدة، لكنّها ليست مستحيلة، وفي حرب السيناريوهات، من المفيد للعرب أن يخرجوا أنفسهم من معادلة الحرب والتهديد. إن التزاما واضحا من دول مجلس التعاون الخليجي من أنّها لن تكون قاعدة لشن حرب على إيران، قد يكون رسالة مطمئنة لإيران، وفاتحة لتفاهمات جديدة ومجدية معها. إن تحييد العرب لأنفسهم من الصراع بين إيران وإسرائيل أمر ضروري لحماية الذات على الأقل.. إسرائيل تلعب بالنار، وهي تتحمل المسؤولية، ومن الغباء تحمل المسؤولية معها والاكتواء بالنار التي تلعب بها. لكن هذا لا يكفي، وأرى أن تكون هناك جرأة عربية لطرح مبادرة، بعد فشل مفاوضات فيينا، إذا فشلت، تكون مبينة على البنود التالية (باختصار):
أولا، منطقة الشرق الأوسط خالية من الأسلحة النووية، ثانيا، تفكيك الأسلحة النووية حيثما وجدت (إسرائيل، بالطبع) ثالثا، نظام صارم من الرقابة الدولية وتفكيك أي مخزون من الوقود النووي له علاقة بالأغراض العسكرية.
يمكن استغلال الأزمة الحالية لصالح العالم العربي، من خلال شن حملة لنزع السلاح النووي في الشرق الأوسط، ما يعني نزعه من إسرائيل مقابل تخلّي إيران عن مشروعها النووي. وفي ظل الضجة المثارة حول النووي الإيراني المحتمل، أصبح السكوت على النووي الإسرائيلي المؤكّد أمرا لا يصح السكوت عليه.