لا يمكن إلا أن نسمي الأعوام العشرة الأخيرة بأنها أعوام حصد أرواح الأسرى داخل سجون ومعسكرات الاحتلال الصهيوني، الأمراض تزداد والشهداء يزدادون، والقتل الصامت يجري بنظام وتخطيطـ، يختطف الأسرى واحدا واحدا او يتركوا يعانون امراضا مزمنة، استفحلت في أجسادهم شيئا فشيئا حتى تحولوا الى شبه احياء.
من يدخل ماكنة نظام السجن الصهيوني يكتشف أنها صممت لإبادة الجسد والأفكار واليقين وإطفاء جذوة المقاومة، ومن أجل السيطرة على الرمز والمثال الذي يمثله الأسرى الفلسطينيين، هذه الماكنة تعمل بانتظام وبحسابات زمنية تديرها كل أجهزة الاحتلال ابتداء من الجندي والسجان والشرطي وجهاز المخابرات والجيش والقضاة ومجلس الوزراء وأعضاء البرلمان ورجال اللاهوت التوراتي، أنظمة وقوانين تتحكم بكل شيء، شبكة رهيبة متكاملة تستهدف تحويل الأسير جسدًا وروحًا إلى خراب.
من يدخل ماكنة السجن الصهيوني تصادر منه إانسانيته وكيانيته، تجند كل الوسائل لتدمير طاقاته الحسية الجسدية والنفسية لإخراجه من ساحة المعركة مع الاحتلال، يصبح الأسير في هذه الماكنة صفرا، الوقت ليس له، نومه ومأكله ومشربه وملبسه واحلامه وحركاته وانفعالاته جميعها تحت المراقبة ومبرمجة في هذه الماكنة الضخمة التي تسمى سجن.
السجن ليس جدران تحتجز البشر فقط، السجن قبر عميق يقع في المنطقة الساخنة بين الحياة والآخرة، تموت وتحيا ثم تموت حتى تفقد المعنى وتصبح اسير انتظار ليس له مدى، والسجن يلقي على كتفيك اثقالا من المؤبدات والحديد، وعلى ذاكرتك ضجيجا دائما من الأصوات الخشنة، السجن يمتصك وعيا وثقافة حتى تصبح قطعة من جدار او صدى، والسجن يصدك اإذا حاولت ان تحلم او تستعيد من خارج السور حمامة او قصيدة، والسجن يهاجمك إذا حاولت ان ترفع جهاز التنفس عن روحك وتستقبل هواءً آخر من خارج الماكنة.
الأسير المريض ناصر أبو حميد القابع في مستشفى برزلاي الإسرائيلي تحت أجهزة التنفس والتخدير في قسم العناية المكثفة، يتحكم هذا الجهاز الآن بحياته الباقية، الجهاز يقرر مصيره ومستقبله، الجهاز يعطي الإشارة لورم السرطان ان ينفجر في رئتيه او يتأخر قليلا حتى تتهيأ مراسيم موت صامتة، الجهاز ينعش السجن في اعماقه ويغلق نوافذ السماء، الجهاز يكتم صوته واشاراته حتى لا يودع أمه الصابرة.
الأجهزة الاصطناعية الطبية تغلق عيون ناصر أبو حميد حتى لا يرى شعبا ينتفض، يحطم كل الانابيب الاصطناعية والحواجز العسكرية والاسوار العالية، الجهاز يكبل قدميه ويديه حتى لا تتحرك أفكاره واشواقه من رام الله حتى القدس واللد والجليل والناصرة، الجهاز يحشر جسده في دائرة مغلقة واحدة.
الأسير ناصر أبو حميد تحت الماكنة الصهيونية، هذه الماكنة صارت مستعمرة متوحشة، ماكنة فيها كل وسائل القتل والعنف والإرهاب، ماكنة لم تتوقف عن اصطياد واعتقال الناس وزجهم بين لوالبها الحديدية، ماكنة تمارس التعذيب والتنكيل والعزل والجرائم الطبية المنظمة، هناك اياد تحركها، اياد واضحة وأخرى خفية، الجميع يجب ان يكون تحت سطوتها، الصغير والكبير، الشباب والرجال والنساء، ماكنة ترصد اتجاهات القلب الفلسطيني، توقف النبض برصاصة او بحفلة اعدام ميداني، ماكنة فيها مجسّات لكل من يقذف حجرًا أو يحفر نفقًا أو يفكر بالمقاومة، ماكنة فيها عواصف نارية من الأوبئة.
الأسير ناصر أبو حميد تحت الماكنة الصهيونية، كل الشعب الفلسطيني تحت هذه الماكنة، هذه الماكنة ليس لها اخلاق او نوازع بشرية، لا تفقه بالحقوق المدنية والإنسانية، ماكنة خرساء، اياديها آلية، ماكنة عمياء تشبه المجنزرة او الجرافة او الطائرة الحربية، كل الشعب الفلسطيني في مرمى أهدافها، محركاتها تعمل كلما ازداد سفك الدماء، وكلما قل الهواء والماء، كلما صودرت أراضي الفلسطينيين وتهبت ممتلكاتهم، ماكنة صُنعت للإبادة والطمس والدعس ومصادرة العقل والأرض والذاكرة.
الأسير ناصر أبو حميد يكتب في رسالته قبل الاخيرة: أيها الناس ارفعوا أجهزة التنفس عن أرواحكم، لا تصدقوا أنها أجهزة طبية، انها أجهزة تستهدف إعدام حقوقكم السياسية وإنعاش نظام العبودية في حياتكم، حبة الدواء مقابل التنازل عن الهوية القومية، حبة الدواء مقابل غرفة غاز تسمى الدولة الفلسطينية.
أيها الناس الماكنة الصهيونية تجمدنا كضحايا، تعيدنا في نظامها السادي والاستبدادي كي تتحرك فوق جثثنا وعذاباتنا وتنزلنا الى رتبة اللاشيء، بلا قيمة، بلا حقوق قومية، الماكنة هذه النكرة لم تجد سبيلا لتحقيق ذاتها الا من خلال اسقاط كل هزالها وخوائها على الضحية.
أيها الناس ارفعوا أجهزة التنفس عن أرواحكم، الجرائم الطبية في سجون الاحتلال تستهدف تحويل أجساد الاسرى إلى أنقاض ومصادر للآلام والمعاناة، الأسير يصبح أسير أوجاعه طوال الحياة، معاناة وجودية صامتة أحيانًا ومتفجرة أحيانا أخرى يحملها الأسير معه وكأنه يحمل سجنه أينما حل، الآم دائمة ومتنوعة.
أيها الناس ارفعوا أجهزة التنفس عن أرواحكم، اخرجوا من ماكنة السجن ومن حصار الجدار، تنفسوا هواء البحر والشجر فهناك سحابة قادمة، اخرجوا من هذه الماكنة لتضح المسافة بين الموت والحياة، وينقشع الغموض عن اشلائنا اليابسة، ليكن الاحتلال عبئا على المحتل وليس عبئا على اجسامنا النازفة.
أيها الناس اخرجوا من هذه الماكنة، لا تصرخوا لان الصراخ هو مدخل للإقرار بالهزيمة والانكسار ونشوة متهيجة للطاغية، وإن كان لا بد من شعار يرمز لدولة الكيان الصهيوني وتاريخها هو هذا الهرم الهائل من جماجمنا ونكباتنا المتوالية.
أيها الناس اخرجوا من هذه الماكنة، لستم في غيبوبة يغسل التخدير ادمغتكم او يعطلها او يجمدها في نظام السيطرة وصدمات التدمير الكارثية، استيقظوا وحافظوا على انسانيتكم حتى لا يختزل كيانكم ويستباح بلا حدود تحت رحمة الجلاد وتقنيات الفناء والعزل والبرمجة والضياع خارج الجسد والروح والخارطة.
أيها الناس اخرجوا من هذه الماكنة التي تصهرون فيها حتى تذوب ملامحكم، هذه الماكنة ترفع شعار تقليص الصراع وهذا يعني تقليص اعماركم وحياتكم، ابرتهايد من الشمال الى الجنوب، حدود كلها موت، اجسادكم ممزقة، حيزكم الجغرافي والنفسي يشبه مقابر مبعثرة، في كل الاتجاهات مجزرة، وفي كل مكان وفي كل ساعة يرتقي شهيد او شهيدة.
أيها الناس اخرجوا من هذه الماكنة، قاتلوا حتى آخر الليل وأول النهار ولا تطلبوا المغفرة، فكل أيامنا عظيمة ما دمنا واقفين هنا فوق صخور أرضنا، عيوننا إلى القدس مفتوحة، وقناعتنا ثورة وإرادة لا تعرف التراجع او المساومة.
أيها الناس اخرجوا من هذه الماكنة، أن اخذوا جسدي فأجسادكم حية، مروا على والدتي في مدينة رام الله وقولوا لها: يا ام يوسف هناك أرواح في السماء عائدة، خذوا منها دروس الصبر وتعاليم الصلوات الكنعانية، خذوا عاداتها واشربوا قهوتها المرة، في حضنها ربيع نولد فيه ونرجع منه اليها، نعيد للأرض زهوتها، امي اجمل ما خلق الله حارسة ناري الدائمة.
سلام اليك يا أمي، اطمئني لقد انتصرت بك على دولة الاحتلال وحطمت الفاشية والقوة الظالمة، لا تقلقي، المسافات كانت طويلة ولكننا نعرف كيف تكون الخاتمة، سلام على كل الاسرى الأحباء والأصدقاء، سلام على إخوتي الأربعة، سلام على أخي الشهيد الحي في الدنيا وفي الاخرة.