الكوفية:كما كل ما يجري في الساحة الفلسطينية، ولا أقول الساحة السياسية، حيث لم يعد هناك أي سياسة، سيما في أوساط النخبة المهيمنة على مقدرات البلاد، والتي أدارت ظهرها لكل مكونات المجتمع الفلسطيني خاصة أولئك الذين ما زال لديهم وجهات نظر حول مخاطر الاندفاع نحو تكريس المزيد من الهيمنة وفرض أجندتها التي باتت تتعارض ليس فقط مع مصالح الأغلبية العريضة من الشعب؛ بل ومع الحقوق الوطنية. وما الاندفاع نحو الإصرار على عقد مركزي الموالاة، على الرغم من كل تداعياته المباشرة ومتوسطة المدى، إلا أحد أشكال الإصرار على إحكام الهيمنة الشاملة والسطو على تاريخ النضال الوطني ومنجزات الشعب الفلسطيني، وحصرها في يد مجموعة تعدّ نفسها للقبول فعليًا بالأمر الواقع واعتبار ما تقدمه حكومة الاحتلال من فتات هي الإنجازات التي يستحق وكلائها الجلوس على مقود القيادة. وهذه باختصار وظيفة هذا المجلس الوحيدة واليتيمة ولا غير ذلك.
عقد المجلس وفق قاعدة "اللي بيجي ييجي واللي ما بدو باي باي"، حيث أن المجموعة المهيمنة، ولا أقول فتح التي لأغلبيتها رأي آخر، تتصرف بالمصير الوطني وكأنها صاحبة احتكار الامتياز لملكية المنظمة التي بات التعامل معها كشركة خاصة يمكن لمالك الحصة الأكبر زيادة أو تعزيز فتات حصص الآخرين بقدر الحاجة اللحظية لتمرير ذلك الهدف أو الانخراط في دائرة الموالاة أو على الأقل الصمت على كل ما يجري، ومعاقبة وإقصاء من يخرج عن عصا الطاعة.
ولا تريد تلك المجموعة المهيمنة أن ترى أن هذه "الباي باي" لم تعد تقتصر على أحد أو بعض الفصائل المؤسسة لمنظمة التحرير والمنضوية في إطارها، أو تلك التي توضع في وجهها شروط الرباعية البائدة كي يستمر الانقسام والاستفراد بالمصير الوطني، بقدر ما أن هذه "الباي باي الإقصائية" باتت ترفع في وجه الأغلبية الساحقة من الشعب الفلسطيني، الأمر الذي بات فعليًا يطرح سؤالًا مؤلمًا، وهو بعد أن بات واقع المنظمة التي ما زالت تخضع للفك والتركيب حد إلغاء دور هيئتها التشريعية الأولى، بعد أن تم مصادرة دور لجنتها التنفيذية، وتكريس الهيمنة والتفرد والانفراد بالمصير الوطني في يد حلقة ضيقة من المستشارين الذين يعتقدون أن بإمكانهم تفكيك وعي الناس بفتات ما هو حقوق فردية وطبيعية لهم على حساب الحقوق الوطنية والعامة وجوهرها الحق في تقرير المصير والعيش بحرية وكرامة. بعد ذلك كله، هل يمكن استمرار ترديد مقولة أن هذه المنظمة المختطفة فعليًا بواقعها الراهن وضياع بوصلتها وانهيار برنامجها وتغييب طابعها الجبهوي للتحرر الوطني ما زالت تمثل تطلعات الشعب الفلسطيني وتوحد نضالاته نحو الظفر بحق تقرير المصير؟!
إن الهزة التي يحدثها دوي عملية التفكيك لمنظمة التحرير الإئتلافية كممثل شرعي وحيد والسطو على مكانتها للتكيف الكامل مع القدر الذي تحتاجه اسرائيل لترسيخ الاعتراف الذهبي بحقها في الوجود بأمن وسلام، دون أي اعتبار للحقوق الوطنية الفلسطينية، ولا لمكانة المنظمة نفسها في توحيد الفلسطينيين في كافة أماكن تواجدهم، هذه الهزة لن تقتصر على مجرد انسحابات أو انشقاقات في بعض قوى منظمة التحرير التي قررت الانضمام لطابور الموالاة أو التغطية عليه، بل إن تداعياتها، فيما يبدو، ستمتد إلى مجمل أطراف الحركة الوطنية وإلى الصراع على شرعية منظمة التحرير نفسها. حيث أن قوى المنظمة، سيما حركة فتح، تغلي تحت الرماد، في وقت باتت الحركة الوطنية تفقد عناصر وحدتها الائتلافية، وهي مصممة على رفض مراجعة المسار السياسي الذي أوصل القضية الوطنية إلى ما نحن عليه، وهذا بحد ذاته، سيما في ظل الانسداد السياسي والعدوانية الاسرائيلية والمعضلات الاقتصادية والاجتماعية والمتعلقة بحقوق الإنسان، بفعل هذه العدوانية من ناحية، وبفعل انتشار الفساد وغياب كل أشكال الحكم الرشيد على ضفتي الانقسام من ناحية ثانية، يراكم عناصر يومية لانفجار زلزال شعبي قد يحدث في أي لحظة، ولن تجدي معه سياسة العصا الغليظة للسلطة، بقدر ما قد تكون وقودًا لهذا الانفجار.
أما الحديث عن أنه لم يتم التفريط بالحقوق الوطنية الثابتة، فهو بحاجة لتدقيق، عندما يتم التخلي عن الرافعة الأساسية التي تحمي هذه الحقوق وهي وحدة شعبنا، والاستمرار في رفض الانصياع للإرادة الشعبية الداعية للوحدة، والانتخابات، والمضي في وضع العقبات أمام إمكانية إنهاء الانقسام، باستحضار شروط الرباعية البائدة والتي لم تعد مطروحة سوى من الذين يجترون أسباب استمرار الانقسام للتمادي بكل أشكال الهيمنة والتفرد والانفراد بالمصير الوطني واقتسام السيطرة على بقايا الوطن، الأمر الذي بات يمكّن حكومة الاحتلال من الاستفراد بمصيرنا الوطني، رغم التحولات الكونية الهائلة لصالح قضية شعبنا وعزل سياسات الاحتلال، والتي للأسف يجري تبديدها، وآخرها تقرير منظمة العفو الدولية "أمنستي" حول الطبيعة العنصرية لدولة الاحتلال الإسرائيلي وممارساته. الأمر الذي يشي بأن القبول بالأمر الواقع والتكيف مع متطلباته هو الخيار الوحيد للقيادة المهيمنة، وهذا ما يدحض أي حديث استهلاكي حول ما يسمى بالخيارات المفتوحة، لأن أيًا من هذه الخيارات، غير قبول استمرار الواقع الراهن، يتطلب إعطاء الأولوية لتعزيز وحدة شعبنا وتلبية متطلبات صموده، وهو الأمر الذي يتم استبعاده في الممارسة السياسية بغض النظر عن الثرثرات الشعاراتية التي لم تعد تنطلي على أحدٍ، فالثابت الوحيد السائد هو عدم القيام بأي ما من شأنه تغيير الواقع وإعطاء نافذة أمل للناس .
أعتقد أن ما بعد هذا المجلس لن يكون كما كان قبله، فخطر الصراع على الشرعية الممزقة بفعل الانقسام والسياسات العبثية من مختلف الأطراف المهيمنة على المشهد، بات داهمًا. ولعل هذا يطرح على كل الوطنيين في فلسطين البدء بحوار جدي لبلورة حراك وطني حقيقي عابر للفصائل وليس تحت بنديرتها الفاشلة، وبما يشمل مناضلي فتح المهمشين والقابضين على الجمر، والقطاعات الاجتماعية والقوى الحية في الوطن والشتات بهدف الدفاع عن إنجازات شعبنا الوطنية، واستعادة زمام المبادرة عبر هيئات ولجان عمل شعبي أو أية مبادرات شعبية في كافة التجمعات الفلسطينية لإعلاء صوت الناس والدفاع عن حقوقهم المدنية والاجتماعية والاقتصادية والوطنية، وعن خياراتهم الديمقراطية وفي مقدمتها حقهم في اختيار قيادتهم بالانتخابات الديمقراطية، ذلك بهدف صون حقوق شعبنا واستعادة مكانة منظمة التحرير كممثل شرعي وحيد لشعبنا وقائدًا لنضاله نحو الحرية والعودة، وليس الاستمرار بوضع القدس في تعارض مع هذا الحق في وقت يتم فيه إدارة الظهر لحقوق أهل القدس المرابطين في بيت المقدس، كما يتم إدارة الظهر للحقوق الإنسانية لأهلنا في غزة وتركهم فريسة للانقسام وحصار الاحتلال وظلم حركة حماس، وترك اللاجئين لمصائر الهجرة وتبديد الحقوق. هذا ما لا يمكن التسليم به إطلاقًا.