جاء حديث زعيم التقدمين في الحزب الديمقراطي الأمريكي السيناتور بيرني ساندرز بما لا يعفي الولايات المتحدة من دورها في تأجيج الصراع الروسي الأوكراني، مذكرًا بأزمة الصواريخ النووية السوفييتية في كوبا عام 1962، والتي كادت أن تضع العالم أمام حرب نووية. هذا الكلام من ساندرز يكشف تمامًا أن جوهر الأزمة وطابع الحرب الدائرة، حيث وكما يبدو من تداعياتها التي تجري على الأرض الأوكرانية و يدفع ثمنها الشعب الأوكراني، فإنها تدور بجوهرها حول طبيعة النظام الدولي الذي يجري الصراع على الانتقال به من نظام أحادي القطب تقوده الولايات المتحدة منفردة، أو متعدد الأقطاب كما يسعى الاتحاد الروسي ومن خلفه الصين وبحذر شديد الهند و كلاهما دول عملاقة سيما الصين الشعبية.
لقد دأبت الولايات المتحدة ومنذ انهيار الاتحاد السوفييتي، سيما بعد الطريقة المذلة التي قاد فيها كل من غورباتشوف وبعده يلتسين عملية تفكك الدول السوفييتية ، على التعامل مع روسيا كدولة مهمة، و لكن طالما اعتبرتها مجرد دولة اقليمية، و ليس من حقها المشاركة في تقرير مصير النظام الدولي أو التدخل في معالجة الأزمات الدولية، و طالما كانت استراتيجيتها ترتكز على منع روسيا الاتحادية من لعب أي دور في السياسة الدولية، و تفاقمت هذه المعادلة من وجهة نظر أمريكية، بعد اتضاح القفزات الهائلة في الاقتصاد الصيني والاستحقاقات السياسية التي ستصاحب هذا التغير الكوني في العلاقات الدولية، سيما في ظل التقارب الصيني الروسي و الذي بالتأكيد يدفع تبلور نحو نظام عالمي جديد.
السؤال المهم و الذي يحتاج إلى نقاش جدي وهادئ هو : هل الولايات المتحدة و معها دول الناتو وخاصة بريطانيا سعت إلى استدراج روسيا لفخ حرب كبرى في أوكرانيا، بحيث تستنزف القوة الروسية الصاعدة، سيما في ظل الطموحات المتنامية لدى الرئيس بوتين شخصيًا ، و الذي كما يقولون أنه لم يخض حربًا إلا وانتصر فيها، و ما ولده ذلك من شعور بالعظمة، بالإضافة إلى أنه نجح في استعادة مكانة روسيا وشعور الروس بالكرامة الوطنية والاعتزاز العالي بالقومية، وربما المبالغ بها حد الشوفينية أحيانًا ، بعد أن سعت الولايات المتحدة و حلفائها دوس ذلك كله.
أما السؤال الآخر فهو هل بوتين واثق من نتائج هذه الحرب، طالما أن الولايات المتحدة وحلفائها الأوربيين لن يخوضوا حرب أوكرانيا ، بل إن واشنطن ولندن يتعاملان مع هذه الحرب بأنها تجرى على أرض بعيدة عن بلديهما، حتى لو امتدت لباقي دول أوروبا، وأن تأجيج هذه الحرب سيخدمهما على المديين المتوسط والبعيد ، سيما إذا نجحت العقوبات الاقتصادية وتداعياتها في نقل الحرب لتشمل الشعب الروسي وتدفيعه الثمن اقتصاديًا، سيما النخبة الاقتصادية من حلفاء بوتين الذين يهيمنون على معظم الثروة الروسية، ناهيك أن جونسون ، ربما يتعامل بعقلية ثأرية مع أوروبا بعد خروجه من الاتحاد الأوروبي و النزعة الشوفينية في علاقته معها، والتي تتعمق في بلده يومًا بعد الآخر ، فتصريحاته لا تدل سوى على مصلحة مباشرة لبريطانيا بالتحريض على استمرار الحرب وتأجيج نيرانها .
إلى أين ستصل هذه الحرب وتداعياتها؟ هذا ما ستكشفه الأيام و الاسابيع القادمة ، فروسيا لا تستطيع أن تتراجع دون تحقيق الاهداف المباشرة، سيما حيادية أوكرانيا ومنعها من دخول حلف عسكري مناهض لها، بما في ذلك ضبط إن لم يكن سحب سلاحها الاستراتيجي الثقيل؛ في وقت أن أوكرانيا لا تملك أمر قرارها من هذه الشروط دون التنسيق الكامل مع الغرب، و الذي كما يبدو يتصرف بطريقة من لاحت له فرصة اغراق روسيا في وحل حرب طويلة في بلد مجاور يبلغ سكانه أكثر من خمسين مليون، و تتنامى في داخله النزعات القومية والتي ستؤججها هذه الحرب حد السوفينية .
الأمر الآخر الذي بات واضحًا أن واشنطن ليست مستعدة للتدخل المباش، وهذه استراتيجية واضحة في علاقاتها الدولية سواء من خلال النموذج الأفغاني أو العراقي، فهي تنكفئ عسكريًا على نفسها و تخوض حروبها العسكرية و الاقتصادية على أرض و بلدان وشعوب غيرها. هذا هو التحدي المطروح على الدول العربية و الشرق الأوسطية؛ و غير معلوم مدى قدرة هذه الدول على استخلاص عبر هذا الدرس واعادة بناء استراتيجيتها في المنطقة.
أمّا بكين والتي كما يبدو قدمت وعودًا لموسكو ، فهي حريصة على عدم الانجرار المباشر سواء عسكريًا أو اقتصاديًا في هذه الحرب ، و السؤال هل ستتركها الولايات المتحدة تدعم موسكو عن بعد، خاصة أن هذه الحرب كما يبدو قد مُهد لها كي تستهدف أيضًا بكين وقوتها الصاعدة إن آجلًا أم عاجلًا.
الشيء المهم أننا نحن الفلسطينيون، و الذين نكتوي من نار الاحتلال و القتل و الاستيلاء على أرضنا و مواردنا، و محاولات إسرائيل المستميتة لمنعنا من ممارسة حقنا في تقرير المصير، وكضحايا القرن من العنصرية الصهيونية ، فمحظور علينا الابتعاد عن هذه القيم، بل وضرورة التمسك بها وبكل قواعد القانون الدولي، سيما عدم جواز احتلال أراضي الدول و الشعوب الأخرى بالقوة المسلحة، فنحن شعب ذاق الأمرين من ازدواجية المعايير في التعامل مع هذه المبادئ التي عادت اليوم، وبغض النظر عن أهدافها، لتحتل أولويات الشعوب المناهضة للحرب، هذا بالاضافة إلى أن كلا الشعبين الروسي والأوكراني لطالما وقفا مع حقوق شعبنا كما سبق وأرستها الثقافة الشعبية في الحقبة السوڤييتية، رغم تباين موقف الحكومتين الروسية و الأوكرانية الراهن من السياسات الاسرائيلية ضد شعبنا، حيث حافظت الدبلوماسية الروسية على التقاليد السوڤيتية في دعم الحقوق المشروعة لشعبنا، بل و سعت من أجل استعادة الوحدة الفلسطينية ، كعنصر حاسم لتمكين الفلسطينيين من نيل حقوقهم ، إلا أن موسكو و كييف تربطهما علاقات مصالح كبرى مع اسرائيل، لدرجة أن موسكو لن تذهب بعيدًا في محاسبة اسرائيل على وقوفها مع واشنطن، وهذا ما اكدته موسكو ازاء مستقبل تنسيقها الأمني مع اسرائيل حول سوريا.
هذا الدرس يفرض علينا توخي شديد الحذر والتمسك بمبادئ القانون الدولي، والدعوة لحل النزاعات بالطرق السلمية و الحوار وليس بالقوة العسكرية و اعتبار حق الشعوب في تقرير مصيرها مبدءًا غير خاضع للمساومات، فبدونه و دون وحدة الشعوب من أجل الحرية و السلام، قد تصبح قضية شعبنا مرة أخرى الضحية في ظل أي احتمال قد ترسو إليه هذه المعركة الكبرى على مستقبل قواعد النظام العالمي الجديد، و التي قد تطول وتمتد لسنوات عديدة.
دعونا نصلى لوقف هذه الحرب و صون دماء وحياة وممتلكات الأبرياء .