الكوفية:لم تدفع بعد القارة العجوز سوى الفواتير الأولى من ثمن اللهاث وراء الولايات المتحدة، ولم «تتعلّم» بعد أن أمريكا هي فقط لأمريكا، ولا شيء غير ذلك في الحسابات النهائية.
بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وتفكك «حلف وارسو»، لم يعد لـ «حلف الأطلسي» من ضرورات للبقاء كحلف «دفاعي»، كما يدّعي القائمون عليه، بل إن حلّ «حلف الأطلسي» كان هو المطلوب، وكان البحث عن الأمن الدولي بعد انتصار الغرب في «الحرب الباردة»، وبعد أن انتقلت روسيا إلى النظام الرأسمالي العالمي، بل وعندما كان واضحاً تمام الوضوح أن الصين نفسها شرعت من جانبها بعمليات تحول كبيرة وعميقة من الاشتباك النشط مع الأسواق العالمية، وتحولت التجارة الدولية للصين إلى المظهر الرئيسي لدورها الاقتصادي على المستوى الدولي إلى أن امتدت عمليات الاشتباك الصيني بالاقتصاد العالمي إلى كل مناحي هذا الاقتصاد، بما في ذلك الاستثمارات العملاقة في الاقتصاديات الغربية مقابل فتح أسواقها الوطنية أمام استثمارات الغرب، حيث شهد العالم منذ تسعينيات القرن الماضي وحتى الآن أكبر عمليات لحركة رؤوس الأموال والبضائع في التاريخ الإنساني كله.. بعد هذا كله لم يكن هناك أي سببٍ لبقاء هذا الحلف.
والخُلاصة الأولى هنا هي أن روسيا والصين بقدر ما يتعلق الأمر بمفهوم الأمن الدولي الشامل لم يشكلا أي تهديد حقيقي، لا لأمريكا ولا لأوروبا، ولا لأي بلدٍ في العالم إذا ما تمّ احترام الأمن القومي لكلا البلدين، وفي احترام الأمن القومي هذا يكمن بيت القصيد.
لم يكن من سبيل أمام الولايات المتحدة لبقاء «حلف الأطلسي»، ليس فقط قائماً، وإنما فاعلاً ونشطاً، أيضاً، سوى «اختراع الأعداء»، وهي ظاهرة معروفة منذ القدم، وما زالت تفعل فعلها في كثير من سياقات الأحداث التاريخية.
وحتى بالبعد «الأكاديمي» فإن بعض قادة الحركات القومية قد اعتبروا وجود العدو المشترك أحد أهم عناصر التكوين «القومي» لبعض الأمم والشعوب والطوائف أيضاً، ومن باب أولى لإقامة الأحلاف.
نعم، بوضوح وبكل بساطة اخترعت الولايات المتحدة عدواً هو روسيا، واخترعت عدواً هو الصين، بعد أن فشلت كل المحاولات اللاحقة في اختراع العدو «الوهمي» من بعض الدول في العالم، مثل كوبا والعراق وسورية وليبيا، تارةً بذريعة «أسلحة الدمار الشامل»، وتارةً باسم «دعم» الإرهاب، ثم أخيراً بذريعة السلاح النووي في كوريا، أو الخوف من امتلاكه كما هو الحال مع إيران.
ومن أجل «نجاح» خطة اختراع التهديد القادم من هؤلاء الأعداء بدأت الولايات المتحدة بالاستفزازات التي من شأنها تحضير مسرح العمليات بالشكل الذي يتمّ المهمة على الوجه الأكمل.
لم يكن هناك أمام الولايات المتحدة «أفضل» من توسيع شمال «حلف الأطلسي» شرقاً بموافقة أوروبية كاملة، والبعض يرى هنا أن «رشوة» أوروبا للانخراط الكامل في هذا المخطط الأمريكي كان تحويل أوروبا الشرقية إلى حديقة خلفية لأوروبا الغربية، وإدخالها في الاتحاد الأوروبي كتابعٍ ريفيٍّ يعمل بالسخرة بالمقارنة مع بلدان أوروبا الغربية، بعد أن اشترى الرأسمال الغربي معظم الأصول في أوروبا الشرقية «بسعرِ الفجل»، وحوّل تلك البلدان فاقدةً للأهلية إلاّ بقدر ما تكون على استعداد تام للعب دور «الكومبارس» على خشبة المسرح الأمريكي.
وباستثناء ألمانيا الشرقية التي كانت أكثر تطوراً من بقية بلدان أوروبا الشرقية فإن هذه الأخيرة قد تحولت في الواقع إلى نوعٍ من «الأطراف» الاقتصادية للمركز الأمريكي الأوروبي الغربي، وهو مفهوم ـ أي مفهوم الأطراف ـ ما زال واحداً من أهم المفاهيم الاقتصادية في الفكر الاقتصادي للمفكر العربي المصري الراحل سمير أمين.
والخلاصة الثانية هنا، هي أن أوروبا كلها بعد أن انضمّ الريف «الشرقي» لها أصبحت جزءاً من حالة التوريط والانغماس في الخطط الأمريكية الموجهة ضد الأعداء «الجدد» في كل من موسكو وبكين، ومن الخطط الأمريكية المكمّلة، أيضاً.
واضح تمام الوضوح أن الدولة الأمريكية العميقة لم تكن مطمئنة بما يكفي لعدم «التمرد» الأوروبي في بعض الملفات، ولم تكن مرتاحةً على الإطلاق للطموحات الفرنسية، والإيحاءات الاستقلالية التي بقيت تراود بعض الفرنسيين منذ العهد الديغولي وحتى يومنا هذا، ولكنها (أي الولايات المتحدة) كانت غير مرتاحة بصورة مضاعفة إزاء النزعة «القيادية» لألمانيا في ظل العملقة الاقتصادية التي وصلت إليها ألمانيا مقارنةً مع فرنسا ومع بريطانيا، أيضاً.
وهنا تدخّلت الولايات المتحدة بكل السبل والوسائل لخروج بريطانيا من الاتحاد لبناء نظام «النواة الصلبة الجديدة» للغرب على أُسسٍ أنجلوـ ساكسونية من جهة، وعلى أساس أن تلعب هذه النواة الصلبة الدور المطلوب لترويض العقل الأوروبي، ولرجوع أوروبا إلى الحاضنة الأمريكية، وهذه هي الخلاصة الثالثة.
يعتقد بعض الحالمين عندنا وعند غيرنا، أيضاً، أن الحرب على أوكرانيا قد وحّدت الغرب، وأن الغرب كان يعاني من التفكك لولا أن روسيا شنّت هذه الحرب ضد أوكرانيا.
هؤلاء البعض من الحالمين لا يريدون أن يروا كيف تم اختراع العدو الروسي، ثم الصيني، ثم الدول التي تمّ تدميرها، ولا يريدون أن يروا كيف توسع «حلف الناتو» عوضاً عن أن يحلّ نفسه، وكيف تمت فبركة الانقلاب في أوكرانيا في العام 2014، وكيف حاولت جورجيا تهديد المصالح القومية الروسية، وكيف أدار الغرب ظهره لأكثر من ثماني سنوات على اتفاق مينسك، وكيف أن أوروبا التي تعرف أدقّ التفاصيل عن كل مجموعات النازيين الجدد في أوكرانيا قد سكتت عنهم، بل وحاولت إخفاء المذابح التي ارتكبوها في الدونباس والقرم وفي أوديسا كان من حصيلتها أكثر من أربعة عشر ألفا من السكان المدنيين الذي كان ذنبهم الوحيد أنهم من القومية الروسية أو ممن يتحدثون وينطقون باللغة الروسية.
وها هي أوروبا تسير خلف الولايات المتحدة بالحرب التي تشنها على روسيا في كل المجالات، وبصورةٍ هي أقرب إلى الهستيريا وفقد الصواب، ووصلت الأمور الآن إلى بدء الاستفزاز ضد الصين، وقريباً سنشهد فصولاً جديدة حول تايوان، وسنرى أن الأمر لا يتعلق بالحرب في أوكرانيا، وإنما يتعلق بتخطيط استراتيجي غربي، ممنهج ومتدرّج، وكل حلقة فيه كان يفترض أن تفضي إلى حلقة جديدة لولا أن روسيا، وبعد أكثر من ثماني سنوات من المناشدة اضطرت إلى قطع هذه السلسلة الجهنمية من العدوانية والتوسعية والاستفزاز.