يجتهد مستشرقو السياسة الامريكية في التأسيس الافتراضي لمرحلة جديدة في العلاقات الامريكية مع دول الشرق الاوسط، وبفرح غامر يتحدث سفير أمريكا السابق دانيال ب شابيرو في موقع مركز اتلانتيك ، ان التنسيق الدفاعي الذي سيقترحه الرئيس بايدن على تسعة من زعماء المنطقة في جدة سيضم دولة إسرائيل . وينوه السفير السابق الى ان سبب فشل ثلاث إدارات أمريكية سابقة هي تركيزها على " حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي أو إدارة البرنامج النووي الإيراني ، أو تعزيز الديمقراطية ، أو زيارة القوات في منطقة صراع وتوتر دائم " ، لكنه كغيره من المستشرقين ، يهلل لإعادة اكتشاف العجلة ويبشرنا بإمكانية نجاح المحاولة الامريكية الجديدة بمقاربات تستند الى تحولات يعتبرونها جوهرية في الشرق الاوسط ، من خلال تطورين مهمين موروثين عن إدارة ترامب :
الأول هو اتفاقيات التطبيع بين عدد من الدول العربية وإسرائيل والذي يوفر برايهم “ إمكانيات هائلة لمستقبل أكثر سلامًا وازدهارًا لشعوب المنطقة" .
التطور الإقليمي الثاني ، هو إدراج إسرائيل في القيادة المركزية الأمريكية CENTCOM) )، والتي تشرف على العمليات والعلاقات العسكرية في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وبهذا باتت إسرائيل والعديد من الجيوش العربية ، بما في ذلك من دول لم تطبع العلاقات بعد ، تشارك الآن في تدريبات مشتركة وتخطيط وتبادل أكثر تواتراً تحت مظلة القيادة المركزية الأمريكية.
رغم ان الكتاب والسفراء المختصين بالشرق الاوسط تلقوا تعليما عاليا في تاريخ المنطقة ، يعلمون جيدا ان كل محاولات أمريكا عقد احلاف لضمان مصالحها قد باءت بالفشل حتى في ظروف الحرب الباردة والاستقطاب الإقليمي الحاد بين المعسكرين ، وكل محاولات تجاوز حل القضية الفلسطينية باءت أيضا بالفشل لأنها ظلت تعمل على تجاوز فكرة ان هذه القضية بأبعادها التاريخية والحضارية والدينية هي جوهر كل مشاكل الشرق الاوسط بما فيها موجه الإرهاب التي انتشرت في العقدين الأخيرين .
ورغم موجة التفاؤل التي يحاولون صناعتها مع جولة الرئيس بايدن في المنطقة، الا انها تفترض ان دول الشرق الاوسط لا زالت محميات امريكية موروثة من البريطانيين، استخدمت على الدوام موقعا ومواردا في الحروب ضد دعاة التحرر والاستقلال والوحدة في خمسينات القرن الماضي ، وسحبت دول المنطقة والسعودية تحديدا باعتراف ولي العهد محمد بن سلمان لتكون راس حربة في الصراع ضد معسكر الاتحاد السوفييتي في ذروة الحرب الباردة. العمى الاستشراقي لا يريد ان يرى ان لا دول الخليج هي ذاتها قبل خمسين عاما ولا الولايات المتحدة تملك مفاتيح الجنة. ويسود الاقتناع لدى قادة دول الخليج ومستشاريهم المتعلمين ان إدارة بايدن ستفقد اغلبيتها في الكونغرس في نوفمبر القادم، وربما يخسر الديمقراطيون انتخابات عام 2024. فما الذي يدفع بلدان الشرق الاوسط ودول الخليج الى دفع فاتورة انقاذ النظام الأمريكي من ورطته في الصراع مع الروس او أزمته الاقتصادية والمالية. أي سذاجة هذه التي تقدر ان دول الخليج ستساهم - كرمال عيون بايدن - ومن مالها الخاص في تمديد سيطرة الولايات المتحدة على العالم.
لبدان الخليج خيارات أخرى مفتوحة لترجيح علاقات تؤمن تعظيم وزنها الاقتصادي والتجاري والمالي عالميا، كما ان دولا أخرى مثل فرنسا والصين والهند وروسيا، باتت خيارا مهما لعلاقات متوازنة ومستمرة ودون اشتراطات او ضغوط او تدخل في الخيارات السياسية وإدارة الدولة.
يدرك العقل المفكر في دول المنطقة، ان الوصفة الامريكية الجديدة للمنطقة تحمل في طياتها مخاطر جمة ليس اقلها ، تعبيد الطريق لمرحلة جديدة من الفوضى وإعادة انتاج الإرهاب بتعبيرات جديدة ومتطورة، وهذه المرة لن يقتصر الامر على التيارات الإسلامية الراديكالية وانما تيارات قومية وعروبية ويسارية، فالجرح الفلسطيني حفر عميقا في الذاكرة والوجدان باعتباره عار امة بأكملها، ولا يغرنكم نخبة ضئيلة ممولة تحتل مواقع التواصل الاجتماعي باعتبارها تعبيرا عن امة تاريخية مرت عليها غزوات وانكسارات عديدة الألوان والاجناس. ما زال تيار الكرامة والاستقلال والتحرر وبناء الدولة العادلة في العالم العربي قويا وعميقا في جذوره، وان استكان او ضعف بفعل قمع وترهيب الانظمة التسلطية والأمنية، الا انه لا زال عميقا ومؤثرا في الوجدان والعقل.
يدرك قادة المنطقة ان بايدن، يريد استخدام قمة جدة المنتظرة لابتزاز الايراني في مفاوضات فيينا، وفي المدى الابعد محاولة بناء تحالف ضد روسيا والصين، خدمة لاستراتيجية أمريكية باتت في خريف عمرها ومشكوك في نجاعتها حتى مع أقرب الحلفاء الغربيين. لم يعد خافيا على أحد في المنطقة، ان التغول الايراني على المنطقة خدم ويخدم التوجهات الامريكية هذا إذا لم يصل التفكير انه كان بتواطؤ امريكي لابتزاز المنطقة ودولها وثرواتها. يريد الأمريكي بيع بضاعة فاسدة قوامها، ان الخطر الأكبر على المنطقة هو القوة النووية الايرانية وليس العدوان الإسرائيلي المستمر على المنطقة وخلفه 200 راس نووي.