أعدت السعودية جيداً لزيارة بايدن للمنطقة، فلم تترك شاردة أو واردة دون أن تخضعها لترتيب يخدم ما تسعى إليه، وحددت بشكل دقيق مخرجات القمة التي ستجمع الرئيس الأمريكي بقادة دول الخليج ومعهم مصر والأردن والعراق، فهي من جهة أرادت أن ترد الصاع صاعين للرئيس الأمريكي حين نعتها بالدولة المنبوذة وأنه سيجعلها تدفع الثمن، وبدا ذلك جلياً من اللحظة التي حطت فيها طائرة بايدن في مطار الملك عبد العزيز بجدة حيث كان في استقباله أمير منطقة مكة، على خلاف الاستقبال الحافل الذي حظي به ترامب في مطار الملك خالد بالرياض حيث كان الملك سلمان على رأس مستقبليه، ورداً على قول بايدن "لن ألتقي محمد بن سلمان، أنا ذاهب إلى اجتماع دولي سيشارك فيه" وجد ولي العهد السعودي في استقباله في قصر السلام واستمع إليه وهو يلقي كلمة السعودية ويدير القمة.
لم يتوقف الأمر عند الجانب البروتوكولي بل أن العصا التي جاء يلوح بها بايدن المتعلقة بمقتل خاشقي تحولت إلى عصا غليظة في يد ولي العهد حين رد بشكل واضح وحازم على جريمة مقتل خاشقجي بالقول بأن السعودية عاقبت مرتكبيها وإتخذت كافة الإجرادات لمنع تكرار ذلك، مستحضراً ما فعلته أمريكا في سجن أبو غريب ومتسائلاً عما فعلته أمريكا والعالم في جريمة إغتيال شرين أبو عاقلة، ليغلق بذلك صفحة كان يعرف أنها ستكون محط مساومة من قبل أمريكا له، وفيما يتعلق بملف حقوق الانسان والقيم المشتركة التي لطالما عزفت الإدارات الأمريكية المتعاقبة عليه لتخيف به الحكام العرب وترتعد مفاصلهم جاء رد ولي العهد السعودي بأن لكل دولة قيماً مختلفة يجب احترامها، ومحاولة فرض قيم بالقوة سيكون مصيرها الفشل وتأتي بنتائج عكسية كما حدث مع الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق.
جاء بايدن إلى القمة العربية بمهمات ثلاث لم يساوره الشك في انجازها، الأولى تتعلق بأزمة الطاقة العالمية والتي تمسك الدول الخليجية بناصيتها، وأنه سيطلب منها زيادة الإنتاج للمحافظة على استقرار سوق النفط، فجاءه الرد بأن السعودية لن يكون بمقدورها رفع انتاجها من النفط بعد أن وصل إلى ١٣ مليون برميل يومياً، والثانية تتعلق بتشكيل حلف ناتو الشرق الأوسط بقيادة أمريكا وتشارك فيه إسرائيل بهدف مواجهة إيران وأطماعها في المنطقة، ويعرف القادة العرب أن مثل هذا التحالف لن يجلب للمنطقة العربية سوى المزيد من التوتر، ناهيك على أنه يفتح الأبواب على مصاريعها للهيمنة الكلية على مقدرات الدول العربية من قبل أمريكا وإسرائيل، لذلك لم تجد الدعوة الأمريكية أذانا صاغية من العرب، بل قوبلت بدعوة من العرب لإيران لأن تكون شريكاً في إستقرار وتنمية المنطقة دون تدخل في شؤون الدول العربية الداخلية وأن تبدى تعاوناً مع وكالة الطاقة الذرية، وفي الوقت ذاته لم يتمكن الرئيس الأمريكي من فتح بوابة جديدة لتطبيع إسرائيل مع الدول العربية، بل عادت الدول العربية لتؤكد على أن السلام والاستقرار في المنطقة يبدأ بحل القضية الفلسطينية طبقاً لقرارات الشرعية الدولية والمبادرة العربية.
أما المهمة الثالثة التي حملها بايدن والمتعلقة بعودة أمريكا للمنطقة وأغلاق كافة المنافذ أمام روسيا والصين في المنطقة على اعتبار أن أمريكا وحدها القادرة على حماية الأنظمة العربية وأن المصلحة العربية تقتضي أن تحافظ على مكانتها في الفلك الأمريكي، فمن الواضح أن المعادلة القديمة التي كانت تحكم العلاقات العربية الأمريكية والقائمة على مبدأ النفط مقابل الأمن عفا عليها الزمن طبقاً لما جاء على لسان سفيرة السعودية بالولايات المتحدة الأميرة ريما بنت بندر لصحيفة "بوليتيكو".
لا شك أن أمريكا اليوم ليست أمريكا الأمس، وأمريكا اليوم بحاجة للعرب أكثر من حاجة العرب إليها، وبات جلياً أن المنطقة العربية في غياب أمريكا هي أكثر استقراراً وأمناً، وأن أمريكا لم تعد قادرة على توفير الحماية لحلفائها وهو ما عجزت عن توفيره لحليفتها أوكرانيا، وسبق لها أن تخلت عن حلفائها العرب أثناء ما سمي بالربيع العربي الذي تم برعايتها وتخطيطها ضمن سياسة الفوضى الخلاقة الذي تبنته، لعلها فرصة العرب أن يعيدوا رسم العلاقة العربية الأمريكية طبقاً لما تقتضيه المصالح العربية وليس طبقاً لما تريده أمريكا لخدمة مصالحها ومصالح ربيبتها اسرائيل.