في محصلة زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن للمنطقة، ومن خلال بياناته وتصريحاته والخطوات التي تنوي إدارته اتباعها وتنفيذها، لا يبدو أن ثمة كبير خلاف بين هذا الرئيس الديمقراطي وسلفه الجمهوري دونالد ترامب تجاه قضايا المنطقة وفي القلب منها القضية الفلسطينية، إلا في طريقة إخراج المواقف والتعبير عنها. فقد اعتاد الرئيس السابق التعبير عن مواقفه الداخلية والخارجية بطريقة ملؤها الصلافة والتبجح والاستفزاز، ولعل أسلوبه هذا مستمد من اهتماماته المهنية وأعماله وطريقة حياته، كتاجر عقارات وصاحب أندية للقمار والترفيه، فهو لا يعرف سوى لغة الصفقات والأرقام الباردة، في حين أن بايدن غطّى المواقف عينها بمعسول الكلام، وأرفقها ببعض الإنشاء والشعر والعواطف. بل إن بايدن قام بتطوير واستكمال ما فعله ترامب بشكل نوعي لمصلحة إسرائيل كما برز في الوثيقة التي أسميت "إعلان القدس"، وفي جملة المواقف العملية التي اتخذها الرئيس الأميركي تجاه إسرائيل ومكانتها في المنطقة.
ففي الجوهر، تجاهل بايدن الجذر الأساس لقضية الشرق الأوسط، وهو الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وحرمان الشعب الفلسطيني من التمتع بالحد الأدنى من حقوقه الوطنية، وأصر على المقاربة الاقتصادية والإنسانية المستمدة من رؤية اليمين الإسرائيلي الحاكم، وقد أفاض الرئيس الأميركي في الحديث عن المساعدات التي ستقدمها إدارته للفلسطينيين، وتحدث عن معاناتهم وكأنها قدرهم السيء وليست نتيجة للاحتلال. كما أنه لم يفوّت فرصة توجيه النصائح للفلسطينيين لاعتماد الشفافية ومحاربة الفساد متجاهلا أبشع أنواع الفساد والشرور الإنسانية وهو الاحتلال الذي حوّل حياة الفلسطينيين إلى عذاب مقيم. هذه المقاربة هي صيغة جديدة لصفقة القرن التي وعدت الفلسطينيين بالبحبوحة الاقتصادية مقابل تأجيل حل قضيتهم الوطنية إلى أجل غير مسمى، وجعلت التطبيع بين إسرائيل والبلاد العربية الهدف الأبرز والقابل للتحقيق في الأمد المنظور، في ترجمة أمينة لرؤية اليمين الإسرائيلي بقيادة بنيامين نتنياهو الذي أعلن رأيه بكل صراحة عن استحالة تحقيق السلام مع الجيل الحالي من الفلسطينيين، مدّعيا أن اقصى ما يمكن إنجازه هو السلام الاقتصادي، وهو نفس الاتجاه الذي سارت عليه حكومة بينيت- لابيد حيث سمح بينيت لوزرائه باللقاء مع المسؤولين الفلسطينيين شريطة اقتصار البحث معهم على الشؤون الأمنية والاقتصادية.
أما بالنسبة لإسرائيل، فقد طوّر بايدن مواقف بلاده المعروفة تقليديا من التعهد بضمان أمن إسرائيل وحمايتها إلى "ضمان تفوقها العسكري والنوعي"، إلى جانب طمأنتها بالتعهد بمنع إيران من امتلاك أسلحة نووية، مع ان إسرائيل هي الدولة الوحيدة في المنطقة التي تملك مثل هذه الأسلحة وترفض الخضوع لأية رقابة مهما كان نوعها.
تجاوز بايدن أهداف إدارته المعلنة بمواصلة مسيرة التطبيع الإبراهيمي التي بدأت في عهد سلفه، إلى العمل بكل ما أوتيت بلاده العظمى من قوة ونفوذ وهيمنة، لدمج إسرائيل في المنطقة، بل لمنحها شارة القيادة في النظام الإقليمي الذي يجري العمل لاستحداثه، واعتبار إسرائيل الركيزة الأساسية للحلف الدفاعي المسمى "ناتو الشرق الأوسط" من خلال إعادة إنتاج حلف بغداد الذي أفشلته الشعوب العربية وأنظمتها الوطنية في الخمسينات، على قاعدة إنهاء حالة العداء العربي الإسرائيلي، واصطناع عدو مشترك جديد للعرب وإسرائيل ممثلا في إيران وحلفائها.
أجزل بايدن في امتداح إسرائيل ونظامها السياسي وما أسماه القيم المشتركة التي تجمع أميركا وإسرائيل، وفي سياق غزله المفتوح بإسرائيل وسياسييها تبنى مواقف اليمين العنصري المتطرف متعهدا بالتصدي لكل حملات المقاطعة وما أسماه "محاولات نزع الشرعية عن إسرائيل" مساويا بذلك بين انتقاد سياسات دولة الاحتلال وقادتها وهو أمر يقوم به حتى الإسرائيليون أنفسهم، وبين معاداة السامية التي يعدّها الغرب المنافق تبنيا للمواقف العنصرية النازية. كما تبنى بايدن مواقف اليمين الإسرائيلي تجاه الإصرار على بقاء إسرائيل كدولة يهودية منكرا وجود آخرين غير يهود في هذه الدولة التي لم تتفق مؤسساتها السياسية والقانونية بعد على تعريف من هو اليهودي حتى بعد 74 عاما من إنشاء "دولة اليهود"، واعتبر الرئيس الأميركي أمن إسرائيل وقوتها مصدر حماية للشعب اليهودي في كل أنحاء العالم، وهو أمر غريب وشاذّ لم يسبقه إليه أحد من قادة العالم لأن اعتبار إسرائيل حامية ليهود الولايات المتحدة وروسيا والارجنتين وغيرها من الدول ذات السيادة، يمثل طعنا بمسؤولية هذه الدول تجاه مواطنيها من أتباع الديانة اليهودية وبخاصة أن في الولايات المتحدة اكثر من ستة ملايين يهودي بينهم أوساط مؤثرة وناشطة في انتقاد سياسات إسرائيل.
ومع أن إدارة بايدن استبقت الزيارة بتعويم جريمة اغتيال الشهيدة شيرين أبو عاقلة وسعت إلى تبرئة إسرائيل من فعلتها النكراء، فإن روح شيرين الحاضرة بقوة في بيت لحم وفي كل مكان بفلسطين وفي وجدان الشعب الفلسطيني، فرضت القضية على الرئيس الأميركي الذي حاول الالتفاف على الجريمة بامتداح شيرين ومهنيتها، تماما كما حاول الالتفاف على قضية الاحتلال وجرائمه من خلال تفصيل الخدمات التي تقدمها الأونروا ومستشفيات القدس.
ثمة إشارات إيجابية محدودة في زيارة بايدن، ومن الواضح أنه لا يستطيع تجاوزها في المرحلة الراهنة، وأولها مسألة جوهرية وهي استحالة شطب القضية الفلسطينية، وبعضها رمزية مثل رفض المرافقة الشرطية الإسرائيلية خلال زيارة القدس الشرقية المحتلة، او حتى استئناف الدعم المالي للسلطة والأونروا ومؤسسات القدس، لكن حتى هذه المنافع والإيجابيات يمكن لها أن تنقلب إلى أضرار وسلبيات إذا قادت إلى مقايضة الحقوق الوطنية بالتسهيلات الاقتصادية والمعيشية، وإذا ظل الموقف الفلسطيني معلقا على أوهام التفهم الأميركي ولا يستند إلى استثمار عناصر وأوراق القوة الفلسطينية بكل مكوناتها الظاهرة والكامنة، وإلى أداء كفاحي وسياسي موحّد وليس إلى حالة الانقسام والشرذمة.