قلنا في المقال السابق حول «الحلف الشرق أوسطي» إنّ العربية السعودية تقف خلف الموقف الداعي إلى عدم التطبيع «الكامل» مع إسرائيل (حسب تعبير الجُبير)، وقلنا إنّ مسألة التطبيع الكامل، ومن ثم الدخول في حلف شرق أوسطي تتطلّب إمّا حلّاً حقيقياً بإقامة دولة فلسطينية مستقلة وحلّاً شاملاً، أو التأسيس الجاد لمثل هذا الحل.
كما أوضحنا أن هذا الموقف يلقى دعماً أردنياً ومصرياً، بل وحتى إماراتياً، وعراقياً بكل تأكيد.
وأوضحنا أن الكويت وعُمان وقطر ضد إقامة هذا الحلف من حيث المبدأ، وذلك لأن هذه البلدان لا ترى في إيران عدوّاً بقدر ما هي خصم يمكن التعايش والتفاهم معها.
لكن الأهمّ هو أنّ زيارة بايدن إلى جدّة لم تُحقق له هدفه الأساسي من كل جولته الشرق أوسطية، ولم يُحقق الرئيس الأميركي حتى الأهداف الأخرى فيما يتعلق بالطاقة، ولم تتأكّد بعد نظرية بايدن حول أخطار «التسلّل» الروسي والصيني لمنطقة الإقليم، ولا الكيفية التي سيمنع من خلالها مثل هذا التسلّل، حيث تشير المعطيات الاقتصادية وحتى العسكرية إلى أن الخليج بات أكثر «تحرّراً» في علاقاته مع مراكز القوى الدولية، ولم يعد قابلاً للامتثال التام لرغبات ومراهنات الولايات المتحدة.
لم يفشل بايدن في زيارته لإسرائيل ولم يفشل حتى في زيارته الخاطفة إلى بيت لحم.
فقد ضمن لنفسه زخماً صهيونياً قوياً داخل الولايات المتحدة، ومن المؤكد أن هذا سيزيد من رصيده التصويتي بين يهود الولايات المتحدة، خصوصاً وأن «بيان القدس» قد حدّد التزام الولايات المتحدة، وأكّد، أيضاً، على حماية وأمن إسرائيل، وضمان تفوقها في كل المجالات الأمنية والعسكرية، بل وعمل جاهدا لإدماجها في المنطقة دون حتى أن يضغط عليها لوقف الاستيطان، ودون أن يحصل منها حتى ولو على وعدٍ بذلك، ودون الذهاب إلى ما هو أبعد من «التسهيلات». وضمن لنفسه «تنسيقاً» كاملاً مع إسرائيل حول «التصرُّف» القادم مع إيران.
ولم يقدم للفلسطينيين التزاماً جدياً واحداً، مع أنه أغدق الكثير من الوعود الفضفاضة سياسياً، و»أصرّ» وحشر مسألة الحل الاقتصادي والمعيشي في الزاوية الرئيسة للصراع ولم يشعر بأي حرجٍ على الإطلاق من إبقاء منظمة التحرير الفلسطينية تحت طائلة «الإرهاب» في الوقت الذي يُستقبل من قبل رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ولم يتجاوز الرئيس بايدن بعض المؤشّرات الرمزية التي تدغدغ عواطف الفلسطينيين ليس إلّا، وأبقى على مسألة القنصلية مفتوحة دون مواعيد.
وعندما يتهرّب بايدن من ضرورة إلزام إسرائيل بوقف الاستيطان، ويتهرّب حتى من التزام الولايات المتحدة بوقف إسرائيل عن ممارستها اليومية المتواصلة من القتل والمصادرة والنهب، ومن الممارسات العنصرية السافرة، فإنه بذلك يكون قد «ضمِن» ــ حسب اعتقاده ــ «الهدوء» المطلوب للفترة الزمنية التي يحتاجها، ويكون قد «جمّد» الصراع وأبقاه في الحدود المناسبة المطلوبة له وفق سُلّم أولوياته واهتماماته وتوجّهاته.
باختصار نجحت الخدعة البصرية التي أعدّها بايدن بأنه يهتم بالإقليم، ويخاف عليه من الوقوع في «براثن» روسيا والصين وإيران. وتتوّج بـ «بيان القدس»، الذي هو التزام أميركي مطلق بمصالح إسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني، وتعمل الولايات المتحدة الآن وفي المستقبل لإدماجها بالكامل في كل الإقليم، دون الالتزام بحلّ عادلٍ لقضية الشعب الفلسطيني.
وفي هذا الإطار لم يفشل بايدن ولم يتعثّر على الإطلاق، لأنّ إدماج إسرائيل في الإقليم أصبح مقبولاً من دول الإقليم حتى ولو أنه لم يصل بعد إلى مستوى الحلف، وتحوّل الموضوع من تطبيع إلى تطبيع «كامل»، إضافةً إلى «تقبُّل» دول الإقليم كلها تقريباً على اعتبار أن مستوى هذا التطبيع بات شأناً من شؤون «السيادة» الوطنية، بتحالفات مُعلنة أو «سرّية».
لاحظوا الخدعة هنا:
إقامة الحلف الكامل، الأمني والعسكري باتت تتطلب الحل السياسي للقضية، أما التطبيع فلم يعد بحاجة إلى مثل هذا الحلّ.
هذه ليست سوى نُسخة «مُحسّنة» عن المفهوم الترامبي من حيث الجوهر، والوعود بالحلّ، وليس الالتزام بهذا الحلّ هو ثمن هذا التطبيع.
وما دام مستوى التطبيع هو أحد شؤون «السيادة»، وما دام هذا المستوى متروكاً لهذه «السيادة» بالذات فإنّ إسرائيل تكون قد ضمنت لنفسها المزيد من التطبيع، وضمنت أن يصل هذا المستوى إلى ما هو «أبعد» من ذلك على الصُعُد الأمنية والعسكرية والاقتصادية ثنائياً أو ثلاثيا، فلماذا تدفع ثمناً يصل إلى انسحابها من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإعطاء الشعب الفلسطيني حقه بإقامة دولته الوطنية المستقلة؟
أقصد، إذا كان التطبيع سيستمر ويتصاعد وصولاً إلى إقامة الحلف على المستوى الثنائي أو الثلاثي، فماذا تريد إسرائيل من ذلك، وما هي حاجتها لأكثر من ذلك؟
وماذا يهمّ إسرائيل أن يربط العرب تطبيعهم الكامل معها بإقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران طالما أن التطبيع المستمر والمتصاعد، والذي يصل إلى مستويات ثنائية أو أكثر من الأحلاف الأمنية والعسكرية هو مجّاني بالكامل؟
مسألة الحلف الأمني والعسكري في مؤتمر جدّة، مختلفة عن كامل هذا السياق.
تعثّر بايدن في جدّة لأنهم أصلاً (أقصد العرب) خارج دائرة التشاور والتنسيق، لأن التشاور قد تم بين أميركا وإسرائيل، وتم الاتفاق على (ما تمّ الاتفاق عليه) دون علمهم ولا معرفتهم، وكان المطلوب منهم حسب الرغبة والاعتقاد الأميركي «الالتحاق» بالاستراتيجية الأميركية وأولوياتها ومعالجاتها ومقارباتها للحرب في أوكرانيا، وكذلك لأزمات الطاقة والغذاء وغيرها من الأزمات المتتابعة.
فلماذا يلتحق العرب بهذه الاستراتيجية وهذه المقاربة طالما أنّ الولايات المتحدة تتخلّى عن كلّ حلفائها باستثناء إسرائيل، وطالما أنها لا تراعي إلّا مصالحها ومصالح إسرائيل، وطالما أنها لم تعد قادرة على معالجة أزماتها إلّا على حساب مصالح الآخرين حتى مع الأوروبيين ــ أقرب الحلفاء لها ــ وطالما أنها لم تتمكن على مدى أربعة شهور من وقف التقدم الروسي؟ بالرغم من كل أشكال الدعم العسكري والسياسي والإعلامي والمالي، وطالما أن كل حلف «الناتو» يقف عاجزاً أمام السيطرة الروسية على مجريات الأعمال العسكرية في أوكرانيا؟
ولماذا سيقبل العرب أن ينجرُّوا خلفها طالما أن العقوبات ضد روسيا والتي تجاوزت حاجز الـ (1500) عقوبة، الاقتصادية والمالية والتجارية والإعلامية والثقافية بما في ذلك ما سموه القنبلة النووية المالية والمتمثلة في نظام «سوفت».. لم تعطِ أي نتيجة تذكر حتى الآن؟ ولم تؤدِّ إلى «زعزعة» روسيا، بل أدّت إلى زعزعة الغرب، واقتصاد الغرب بما في ذلك الاقتصاد الأميركي نفسه؟
ثم إذا كانت الولايات المتحدة قد اتفقت مع إسرائيل على «ضرب» إيران عسكرياً فلماذا يُقحِم العرب أنفسهم في حربٍ سيدفعون ثمنها غاليا دون أن تدفع الولايات المتحدة أيّ ثمنٍ لها؟
في الحرب الروسية الأوكرانية يدفع الغرب الأوروبي الثمن الأساسي للحرب، وفي إقليم الشرق الأوسط سيدفع العرب الثمن الأساسي إذا قامت هذه الحرب، أما الولايات المتحدة فإن ما ستدفعه هو فتات في فتات مقارنة بما سيدفعه العرب.
الحسابات الأميركية لحرب كهذه هي الخسائر التي ستتكبدها إسرائيل وليس الخسائر العربية.
والحقيقة أن روسيا قد عرفت كيف ترد على التهديدات لأمنها القومي، وأعدت نفسها جيداً لهذه الحرب، وعرفت كيف تديرها، وهي تواصل إدارتها بحنكة ودهاء أوصلا الولايات المتحدة والغرب كلّه إلى كلّ ما وصل إليه من أزمةٍ ستغير وجه العالم، وهو يتغيّر فعلاً.