دعهم يكرهونك ما داموا يخافونك، هذا ما قاله أشهر طاغية في التاريخ قيصر روما "كاليغولا"، فكل ما يهمه أن يخافه الجميع وترتعد مفاصلهم بمجرد ذكر أسمه، وصل به جنون العظمة الذي ربما ورثه عن قريبه "نيرون" أن يتصرف بإعتباره إله العالم الممسك بشره يرسله أينما شاء وقتما شاء، جعل من القتل هواية يمارسها وشرعنها لنفسه "غريب أنني إذا لم أقتل أحداً أشعر بأنني وحيداً، ويوم إقترح على مجلس الشيوخ تعيين حصانه عضواً في المجلس هتف الحضور مؤيداً ومباركاً، وإزداد جنونه فقرر أن يقيم وليمة إحتفالاً بتعيين حصانه الموقر عضوا في مجلس الشيوخ يحضرها الأعضاء بالملابس الرسمية، ولم تكن الوليمة سوى التبن والشعير، وعندما بدأت الدهشة على الحضور قال لهم إنه لشرف عظيم لكم أن تأكلوا في أواني ذهبية ما يأكله حصاني، لم يكن أمامهم سوى تنفيذ أوامر الطاغية إلا براكوس الذي قذف الحذاء في وجه الحصان ودعا الحضور لأن يثأروا لشرفهم وكرامتهم فإنهال الجميع عليه حتي قضوا عليه، رغم أن مقولته كانت وراء حتفه إلا أن الإمبراطورية الرومانية سارت عليها حتى كانت سبباً في خرابها.
اختفت الامبراطوريات من عالمنا وحل مكانها الدول العظمى، وإن كانت الهزيمة العسكرية السبب المباشر لتراجع إمبراطورية وظهور أخرى مكانها، فلا يمكن لنا القول اليوم بأن تلاشي دولة عظمى يتطلب هزيمتها عسكرياً، سيما وأن الترسانة العسكرية التي تمتلكها تستطيع أن تدمر بها مساحة واسعة من كوكب الأرض وهو ما خلق توازن الردع، وهذا لم يمنع إنهيار دول عظمي مثل الاتحاد السوفيتي ولم يحول دون تراجع أخرى مثل بريطانيا وفرنسا، وحتمية التاريخ تشير كما وصفها إبن خلدون بأن الدولة "كما الإنسان" تمر بمراحل ثلاثة "الطفولة والشباب والشيخوخة"، فالدولة مهما علا شأنها لا تلبث أن تعاني من الشيخوخة ويأخذ نجمها في التراجع والتقوقع.
تربعت أمريكا على مدار العقود السابقة على سدة حكم العالم وبخاصة بعد إنهيار الكتلة الشرقية، وباتت تصرف بإعتبارها شرطي العالم الأوحد المطلوب من الجميع أن يحتمي به وما دون ذلك هلاكه، وقبل العالم برضاه أم رغماً عن أنفه أن يسدد لها الخاوة التي تفرضها سياسية كانت أم إقتصادية، ولم تكن تبحث عن العدال والأمن بل اندفعت لتبث الخوف والرعب في قلوب الدول وملاحقة من تجرأ على شق عصا طاعتها، جندت قوتها العسكرية تارة وقدرتها الاقتصادية تارة أخرى لتطويع الجميع وقبول العيش في بيت طاعتها، ويبدو أن نجاحها في ذلك أعمى بصيرتها عن حجم الكراهية المتنامية لها، ليس فقط في عالمنا العربي بل في كافة أصقاع الأرض حتى داخل دول الاتحاد الأوروبي التي تعتبرها حليفها الاستيراتيجي.
لا يمكن لعاقل أن ينكر قدرات أمريكا العسكرية وأنها قادرة على مسح دول من خارطة العالم بين عشية وضحاها، ولا يمكن أيضاً تجاهل قوتها الاقتصادية والتي تنفرد بصدارة العالم رغم أن الصين لم تعد بعيده عن اطاحتها من تلك المكانة، ولا يشكك أحد بقدراتها الصناعية وما تملكه من تقنية حديثة في كافة المجالات، ولا يمكن إلا لواهم أن يتخيل أن نهاية تفرد وتحكم أمريكا بالعالم يكون من خلال إلحاق هزيمة عسكرية بها، أو حتى بإنهيار إقتصادي لن تتمكن من إحتواء تداعياته، وليس من المنطق في شيء القول بأن تأثير أمريكا في العالم سيختفي بين عشية وضحاها، لكن الواضح للعيان أن نجمها كقائد أوحد للعالم بدأ يفقد بريقه ولمعانه، سيما بعد أن حقق التنين الصيني قفزات مذهله بات يتحكم من خلالها بالكثير من التجارة الدولية، بجانب روسيا التي تسعى لأن ترث الاتحاد السوفيتي بعد أن تعافى اقتصادها وبنت من جديد قدراتها العسكرية، وبجانبهما اليابان التي تعمل بصمت لتعزيز مكانتها الاقتصادية، يضاف الى ذلك الطموح الألماني والفرنسي، ناهيك عن دول قطعت شوطاً كبيراً لتكون بين الكبار.
يبقي السؤال الأهم المتعلق بنا نحن العرب، ماذا نحن فاعلون؟، وهل باستطاعتنا أن نكون رقماً ولو يسيراً في معادلة آخذة بالتشكل؟، ألم يحن الوقت لأن ننفض عن جامعة الدول العربية غبار الوهن والضعف وأن نستغل اللحظة التاريخية التي وفرتها قمة جدة بأننا لم نعد نخاف أمريكا لنبني عليها موقفاً عربياً موحداً ندافع به عن حقوقنا وقضايانا ونسترجع به كرامتنا المفقودة؟، أم أننا سنبقى أسرى الفرقة ونمتهن اشعال الفتن فيما بيننا وتستهوينا لعبة الاقتتال الداخلي، ونستبيح دمنا في الصراع على السلطة، ونقبل بالتعريف الجديد للصديق والعدو؟، حينها لن نفاجأ بمن يطلب منا أن يكون حصانه في المنطقة عضواً "موقراً" في جامعة الدول العربية.