في زيارته إلى مدينة بيت لحم الفلسطينية، حاول الرئيس الامريكي جو بايدن دغدغة العواطف واللعب بالكلمات فأقر التزام أمريكا بحل الدولتين دون الإشارة الى القدس، وقدم مساعدات مالية بقيمة 100 مليون دولار للمستشفيات و201 دولار لصالح منظمة الأونروا، واعتقد بأن ذلك سيكون ثمناً كافيا لدعوة الفلسطينيين للعودة الى طاولة المفاوضات والتنسيق الأمني مع دولة الابرتهايد المحتلة.
لكنه تفاجئ بخطاب مختلف من الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي هب للتأكيد على حق الفلسطينين في الاستقلال والحرية بعد 74 عاماً من النكبة مطالباً بانهاء هذا الاحتلال البغيض الجاثم فوق صدور الفلسطينيين، ومجدداً الحديث عن حل الدولتين كشرطٍ أساس على أن تكون القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين، ورداً على دعوات التطبيع قال عباس بأن (اسرائيل) لايمكنها الاستمرار في التصرف كدولة فوق القانون، خاصة وهي تمارس القمع والقتل والاعتقال والمداهمات وهدم البيوت خارج القانون والأعراف الإنسانية، ومخالفة بذلك كافة المواثيق والقرارات والاتفاقات الدولية، بما في ذلك اتفاق أوسلو 1993 الذي التزمت به السلطة الفلسطينية.
كما أكد على ضرورة محاسبة قتلة الشهيدة شيرين أبو عاقلة مؤكداً بأن السلام يبدأ من فلسطين والقدس وينتهي في فلسطين، غير عابئ بكل ما يردده الاعلام الصهيوني من دعايات وادعاءات الانتصار والاختراقات بإقامة علاقات مع بعض الدول العربية، في موقف يثبت صمود الشعب الفلسطيني باعتباره صاحب الحق والأرض، وإن أي سلام وأي حل أو تسوية لابد وأن يوافق عليها هذا الشعب صاحب القضية.
ويبدوا إننا أمام خطاب فلسطيني جديد لم يكن الرئيس الامريكي يتوقع سماعه، خطاب أكثر صرامة وتمسكاً بالحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني وخاصة حق العودة للاجئين الذي لا يسقط بالتقادم، وكان لافتاً بأن هذا الخطاب جاء متناغماً مع الموقف العربي المتجذر الذي عبرت عنه نتائج قمة جدة للأمن والتنمية التي عقدت في جدة يوم السبت 16 يوليو 2022 من خلال الكلمات التي ألقاها القادة العرب وتمسكوا فيها بحل الدولتين، وبضرورة كف يد (اسرائيل) عن البطش والقتل والاعتقالات التعسفية ومصادرة أراضي وحقوق الفلسطينيين ، مع إشاراته الواضحة لحق الفلسطينين في الدفاع عن أنفسهم وقيام دولتهم المستقلة.
وفي السياق ذاته جاءت كلمة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك مملكة البحرين المعظم الذي أكد على موقف البحرين الثابت من الحق الفلسطيني، مع المطالبة بالرجوع إلى حل الدولتين على أساس مبادى المبادرة العربية التي تبنتها قمة بيروت 2002 والتمسك التام بكافة حقوق الشعب الفلسطيني، وعلى رأسه حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وربط السلام بعودة الأرض الفلسطينية المحتلة.
إننا أمام إعادة تموضع ومعايير جديدة ثبتتها وأكدتها قمة جدة للأمن والتنمية والتي جاءت نتائجها لصالح ثبيت الحق الفلسطيني التاريخي ، رافضة لكل المشاريع الصهيونية في إنشاء تحالفات عسكرية تحت مسمى الناتو العربي أو غيره كما أكدت على استمرار الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية تحت الاحتلال في فلسطين وضرورة احترام إرادة الشعب العربي الفلسطيني وحقه في قيام دولته الحرة ذات السيادة.
ويبدو أننا أمام لغة جديدة تولدت نتيجة التغييرات التي حدثت في العالم وخاصة الحرب الروسية الأوكرانية التي أفرزت واقعاً مختلفاً قارن بين الظُلم التاريخي والاحتلال الطويل الذي تعرض له الشعب الفلسطيني والذي قوبل بصمت مريب من دول العالم المختلفة وعلى راسها الصلف الأمريكي والأوربي الكبير المتمثل في الدعم اللامحدود لدولة الأبرتهايد الصهيونية وضمان تفوقها العسكري عبر الدعم اللامحدود التي تحصل عليه.
لكن الحرب الاوكرانية أظهرت للعالم فداحة الكيل بمكيالين حين حشدت أمريكا آلتها الإعلامية للدفاع عن أوكرانيا بنفاق غير مسبوق والمطالبة بتحريرها، بينما هي كانت ولازالت وتستمر في مساندة الاحتلال الصهيوني بكل قوة، وتدعم نظام الابرتهايد العنصري الذي يصادر حقوق الفلسطينيين ويضطهدهم منذ عقود على مرأى ومسمع من العالم الذي يدعي الدفاع عن حقوق الانسان وحق تقرير المصير، بينما هو عملياً شريك فعلي في الظلم الذي وقع على الفلسطينيين ولا يزالون يعانون من آثاره قتلاً وتهجيراً وهدماً للبيوت ومصادرة للأراضي والمياه .
وإذا كان البعض يتوهم بأن بايدن قد حقق إختراقاً كبيراً في زيارته الأخيرة للمنطقة من خلال تحقيق بعض الانجازات التي تُقدم باعتبارها صيداً ثميناً فإن من المهم الاشارة الى التقارير الإعلامية الصهيونية التي تقر وتعترف بفشل زيارة بايدن، وبأن السعودية هي الفائز الأكبر من هذه الزيارة التي ثبتت قواعد جديدة للعبة السياسية في المنطقة، أما ما أشيع عن مكاسب حققها الرئيس بايدن فيهمنا هنا التعليق على ذلك من خلال استعراض ما يلي:
1- أن فتح الأجواء السعودية أمام الطيران الصهيوني، "ورغم عدم ترحيبنا" بهذه الخطوة واعتبار البعض بأنها خطوة في الاتجاه غير الصحيح، فأن من المهم الاشارة إلى أن هذه الأجواء سبق وأن افتتحت من قبل لزيارات العديد من المسئولين لدول المنطقة وعلى رأسهم رؤساء وزارات ووزراء خارجية صهاينة قاموا بزيارة بعض دول للخليج منذ فترة طويلة سبقت زيارة بايدن، أي أن فتح الأجواء الآن جاء تحصيل حاصل وليس ثمرة لهذه الاجتماعات، ومع ذلك فإننا ننادي مجددا لإغلاق كافة الأجواء والمياه والأراضي العربية والإسلامية في وجه الصهاينة.
2- فيما يتعلق برفع المملكة العربية السعودية انتاجها من النفط إلى أكثر من 13 مليون برميل يومياً في حين أن حصتها المتعارف عليها تقدر ب 10 مليون برميل يومياً، هذه المعلومة غير دقيقة أيضا، إذ إن رفع الانتاج كان قد تم بالتفاهم مع مجموعة اوبك بلاس قبل وقت طويل من زيارة بايدن الأخيرة، وليس ذلك مرتبطاً بمؤتمر جدة للأمن والتنمية، الذي رفض زيادة انتاج النفط مؤكداً بأن الانتاج في أعلى مستوياته ولا يمكن زيادته اكثر.
3- والقول بأن مشروع حلف الناتو العربي، هو مجرد تهويش وبالون إختبار تم إطلاقه لإلهائنا عن حقيقة ما تم في الخفاء من انجازات حققها (الشيطان الأكبر) هو محض ضحك على الذقون،
إن الكلام عن الناتو العربي قد جاء على لسان مسئولين وقادة عرب، وليس على لسان المسئولين و الاعلام الصهيوني فقط، وقد تم تنفيس هذا الحُلم وتفتيته قبل أن يضع الرئيس الامريكي أقدامه في المنطقة، وقد جاء ذلك على لسان الدكتور أنور قرقاش من الإمارات، ثم على لسان وزير الخارجية السعودي سمو الأمير محمد بن فرحان، ونحن نعلن بلسان طلق غير ذي علق، بأننا ضد الدخول في الاحلاف العسكرية وخاصة تلك التي يكون الطرف الصهيوني شريكاً بها، ونطالب بإبرام تفاهمات إقليمية تضمن السلم بين ضفتي الخليج العربي.
رحمة بنا أيها الإخوة المسكونين بالهزيمة والانكسار دائماً والمتخيلين بأن قادة هذه المنطقة لا يمكن ان يأتي منهم خيراً ابداً، وإنهم لا يستطيعون قول كلمة لا للسيد الأمريكي حتى لو كان عجوزاً ومترهلاً، فلقد تغيرت التوازنات الدولية وحدث زلزال كبير إسمه الحرب الروسية الأوكرانية، لذا يتوجب عليكم النظر أبعد من أنوفكم وإعادة قراءة الأحداث في ظل المتغيرات الجديدة بما في ذلك القمة الثلاثية التي تستضيفها إيران بمشاركة الرئيس التركي أردوغان والرئيس الروسي بوتين التي تؤكد أهمية المنطقة والارتدادات العنيفة لما حدث في أوكرانيا.
ومجدداً نقول بأننا نوشك على الدخول في عهد جديد من العلاقات الدولية بين دول المنطقة الأمر الذي يتطلب إعادة التموضع، ليس على مستوى القيادات فقط، بل حتى على مستوى النخب المطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى بدعم هذا التغيير في طريقة المعالجة والمقاربات الجديدة التي تتخذها قيادات المنطقة العربية إن من ناحية الموقف المحايد في الحرب الأوكرانية، أو من ناحية مد يدها للسلام مع الجارة إيران ، ومن ناحية أخرى تمسكها بمبادرة السلام العربية والاصرار على دولة فلسطينية مستقلة في حدود 4 يونيو 67 كما نص على ذلك قرار الأمم المتحدة رقم 181 وهو أضعف الإيمان.
وأخيرا فإن فلسطين كانت ولا تزال وستبقى القضية المركزية للأمة العربية وسوف ينخرط المزيد من الشباب العربي في الدفاع عنها والإيمان بها كقضية حق غير قابلة للتصرف والمساومة، خاصة ونحن نشاهد ونراقب ونرصد هذا العنفوان المتجدد لدى الشباب الفلسطيني الثائر والمثابر القادر على فرض معادلات جديدة، تضع فلسطين على راس سلم الأولويات.
وها هي أمريكا تعيد التفكير في فتح قنصليتها في القدس الشرقية لاستئناف وتعزيز التعامل مع الفلسطينيين، وتجديد فتح مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، وها هو الرئيس الفلسطيني والقيادة الفلسطينية تعيد التأكيد على الحق الفلسطيني المشروع في دولة فلسطينية كاملة السيادة.
فلسطين لم ولن تغيب عن الذاكرة والوجدان حتى يدان الإحتلال الصهيوني العنصري وتتكشف عنصريته أمام العالم، وها نحن اليوم نشاهد برلمان أكبر دولة في امريكا اللاتينية البرازيل يقر بعنصرية (اسرائيل) ويعتبرها دولة ابرتهايد، كما نشهد تنامي التضامن مع قضية فلسطين في معظم العواصم الاوربية والعالمية، بل ونشاهد التقارير التي ترصدها وتصدرها بعض المنظمات الحقوقية العالمية بما فيها الصهيونية التي تدين نظام الفصل العنصري الصهيوني وتنتصر للحق الفلسطيني، ومهما طال الزمن أو قصر فإننا سنشهد هذا الاحتلال يرحل مهزوماً عن أرضنا العربية والقدس الموحدة المحررة،
وحتما فإن فلسطين كانت هي الحاضر الأكبر في زيارة بايدن للمنطقة باعتراف الصهاينة أنفسهم الذين فرحوا كثيرا طوال الأيام التي قضاها بايدن بينهم ممازحاً وضاحكاً، لكنهم شاهدوا خيبته الكبرى وهو يغادر أرض الحرمين خالي الوفاض.