لم تكن حادثة إطلاق النار على الدكتور ناصر الدين الشاعر هي أولى ظواهر الانفلات التي تطل برأسها في الضفة الغربية ولكنها أخطرها على الإطلاق، حيث تتجاوز ارتداداتها المنطقة التي حدثت فيها وليس كما الأحداث المحلية التي حدثت سابقاً. فالشاعر يُحسب كأحد قادة حركة حماس التي تتنازع مع حركة فتح، ويتغذى هذا النزاع على مادة تحريضية يومية تضخها وسائل إعلام الحركتين وتلعب وسائل التواصل الاجتماعي دوراً مدمراً في تحويل هذا النزاع الى ثقافة سياسية تركت آثارها على العقل الجمعي الفلسطيني الذي أصبح الانقسام وتداعياته أحد أبرز مكوناته السياسية.
الحادثة خطيرة لكنها لم تأخذ بعداً سياسياً، وإن حاولت بعض أطراف تتغذى على الانقسام أن تغمز بهذا الاتجاه لأن حجم الإدانات والرفض للحادثة التي صدرت من قبل حركة فتح تبعد تلك الشبهة لكنها تأتي في سياق أكثر خطورة، سياق الفلتان الذي يعكس وَهَن السلطة الذي تمت ترجمته سابقاً في الصراعات العائلية في الخليل وعدم قدرة القانون على ردع تلك الأحداث، وكذلك في جنين التي تعتبرها مؤسسة الأمن في إسرائيل خارج سيطرة السلطة وتلك جميعها مؤشرات لا تبشر بخير.
ليس هناك قلق أن تتحول حادثة إطلاق النار على نائب رئيس الوزراء الأسبق والمحاضر في جامعة النجاح الى صراع بين حركتي فتح وحماس للعديد من الأسباب، سواء لجهة أن تلك الحادثة تُحرج أولاً حركة فتح وتمس من حضورها وهيبتها، وهي الخاسر الوحيد من هذا الحدث، ولكن الأهم أن صراعاً بين الحركتين لن يكون دون أن تدفع إسرائيل بأطرافه نحو التناحر كما حدث في غزة. وليس هناك مصلحة إسرائيل ية أن تنفجر الأوضاع في الضفة بين «فتح» و«حماس» وتنتهي بسيطرة «حماس» على الضفة، وما تخطط له إسرائيل في الضفة غير ما خططت له في غزة. وهناك عامل لا يقل أهمية عن تلك العوامل أن غزة أكثر انفعالية وسريعة الاستجابة، فما حدث في غزة من صراع بين الحركتين كان محل استهجان من قبل نفس عناصر وكوادر الحركتين بما يفعله أبناء تلك المنطقة بأنفسهم قياساً بباقي المناطق مثل الضفة ولبنان حيث التواجد ووفرة السلاح لكل منهما.
في الضفة الغربية الأمر مختلف ومصلحة مختلفة لإسرائيل ، حيث السيناريوهات التي تستبعد حكم حركة حماس، فإما سيناريو إبقاء سلطة مركزية واحدة لكن هزيلة بلا فعل سياسي وسقفها الإدارة المدنية تقوم بدور الخدمات والأمن، أو وهو الأخطر، كسيناريو مطروح لصراع على السلطة بين كوادر حركة فتح ينتهي بتشظي الضفة وانقسام المناطق والمدن، وتصبح كل مدينة جغرافياً مستقلة يحكمها أحد أبنائها وهو المشروع المسمى «الإمارات الفلسطينية المتحدة» والذي ينظِّر له باستمرار الباحث في جامعة بار إيلان مردخاي كيدار، وإن بدأت بعض الأوساط الإسرائيل ية تشير الى محاذير هذا السيناريو بتوجيه جزء من السلاح من قبل الأطراف المتصارعة نحو إسرائيل للحصول على شرعية وطنية في اطار الاستقواء، لكنه يبقى السيناريو الأفضل لإسرائيل باعتباره المنقذ من أي استحقاقات سياسية على نمط تجربة غزة وعدم سيطرة سلطة واحدة على كل المناطق الفلسطينية.
حالات الانفلات سابقاً في المدن لم تتجاوز حدودها وبقيت محلية، لكن حادثة الشاعر أحدثت ما يكفي من ردود الفعل الغاضبة والمنددة، ليس فقط باعتباره رجلاً معروفاً ويحظى باحترام كحالة وسطية في السياسة، حيث إنه في ذروة أحداث غزة السوداء كان في المقاطعة يلتقي الرئيس لتدارك ما يمكن تداركه قبل أن يكتشف هو وغيره أن المخطط كان أكبر من قدرات الفلسطينيين على منعه، وأن إسرائيل كانت تهندس بجدارة انسحابها من غزة ليبدأ صراع، كما قال مستشار شارون، بين الإسلاميين والعلمانيين وينتهي بسيطرة الإسلاميين على غزة لتنفصل عن الضفة، هذا مشروع صنعته مراكز الأمن القومي وليس صراعاً عابراً بين الحركتين الأكبر.
هذا المخطط جرى تنفيذه بدقة باستخدام الفلسطينيين أنفسهم ولا زالت المؤسسة الإسرائيل ية تقوم بحراسة هذا المخطط، وقد عبر نتنياهو في احدى زلات لسانه عندما تم حشره بالسؤال عن الأموال التي يُسمح بإدخالها لقطاع غزة وحركة حماس، فأجاب: من أجل الحفاظ على الانقسام. وليس مصادفة أن تفشل كل جولات المصالحة، وليس مصادفة أن يستمر الانقسام كل هذا الوقت دون تلك الحراسة الساهرة التي تقوم بها تل أبيب بما تملك من مقدرات وإمكانيات، إحداها طبعاً انعدام كفاءة الفلسطينيين في إدارة تناقضاتهم وضبطها في إطار مؤسسة واحدة.
هذه الحادثة تشكل محطة هامة في سياق السيناريوهات القادمة، واختباراً لجدية وسيطرة السلطة الفلسطينية على المناطق، واذا كانت أحداث انفلات سابقة تُعتبر في سياق أخذ القانون باليد فإن هذه الحادثة أبعد من ذلك، فهي تعني التعدّي ودوس القانون والتعدّي على السلطة والمساس بالعلاقات الوطنية، وتأخذ بعداً سياسياً في صراع بين حركتين لا تحتاجان الى عود ثقاب لإشعاله، فقد تكفلت وسائل «السوشيال ميديا» على مدار اليوم بضخ ما يكفي من الوقود شديد الاشتعال، وسلوك السلطة تجاه المرتكبين سيعكس جديتها في استعادة مكانتها، وهي تشكل فرصة للسلطة برسالة حازمة لكل تلك الظواهر التي تستسهل تصفية حساباتها بما تملكه من سلاح تستسهل استعماله دون رادع.
انتهت إسرائيل مبكراً من مشروعها تجاه غزة التي انفصلت وباتت تتعامل معها كوحدة جغرافية مستقلة خارج منظومة السلطة، والمشروع الآن يتكرس في الضفة الغربية على أهمية تلك المنطقة استيطانياً وأمنياً لا تتوقف عن العمل، وباعتبار «أن أرض الضفة هي التي دارت عليها أحداث التوراة» ومع الرياح الجديدة التي تهب من تنامٍ في التأييد للقضية الفلسطينية تدرك إسرائيل أنها ستكون عاجلاً أم آجلاً أمام استحقاق سياسي عليها أن تدفعه، هذا الاستحقاق سيكون في الضفة. ولقطع الطريق لن يكون سوى الفلتان أحد وسائلها، وما حدث للدكتور الشاعر أحد أبرز تجلياته التي يجب أن تشعل الأضواء الحمر لدى كل القائمين على العمل السياسي.