كان يوماً اجتماعياً وطنياً بامتياز. لكأنه طقس مقدّس درج عليه الفلسطينيون منذ زمن بعيد.
استنفار شامل يسوده الترقب والتوتر يسبق فرحة عارمة للأغلبية الساحقة من المتقدمين لامتحان الثانوية العامة، وانتكاسة وإحباط بالنسبة لمن لم يحالفهم الحظ، سواء نتيجة الرسوب، أو الحصول على معدّلات ضعيفة.
محال بيع الحلويات تنتعش في هذا الموسم، على نحوٍ لا يضاهيه، موسم آخر، من حيث كمية الحلويات المبيعة.
أعراس جماعية تسود الوطن يتخللها إطلاق نار وألعاب نارية مفزعة، بالرغم من تحذيرات الشرطة، وملاحقة الفاعلين.
أفراح هنا وزغاريد هناك، والكل يتحضر لتقديم التبريكات والهدايا.
مكلفة مناسبة الإعلان عن نتائج الثانوية العامّة، ومرهقة للناس الذين أرهقتهم مادياً، مناسبات سابقة متلاحقة، بدءاً من رمضان إلى عيد الفطر، فعيد الأضحى، وما سيتلو ذلك من مواسم، لها علاقة بافتتاح العام الدراسي، وتخزين الزيت والزيتون، خاصة أن الأحوال المعيشية للناس، صعبة وتزداد صعوبة.
انتهى الفصل الأول من هذا الموسم بكل ما ينطوي عليه من فرح وإحباط لتبدأ مرحلة جديدة من القلق، لها علاقة باختيار التخصص الذي يمكن أن يساعد الطالب بعد تخرّجه في العثور على عمل، ثم إلى الهموم التي تتصل بقدرة الأهل على تغطية نفقات الدراسة.
في زمنٍ مضى، كان الحصول على الثانوية العامّة أمراً مهماً ومفصلياً، فلقد كان بإمكان الطالب، أن يحصل على وظيفة في التدريس حتى قبل أن يحصل على البكالوريوس، أما إن حصل عليها وكان ذلك بشقّ الأنفس، فإن حامل البكالوريوس، كان سينضم إلى طبقة اجتماعية، تساعد الأهل على إحداث قفزة في حياتهم.
بعد احتلال الضفة وغزة والقدس، لم تعد الشهادات لها معنى، فالعمل في السوق الإسرائيلية، كان أكثر جدوى وأسهل، ولكن مع تطور الحياة والتكنولوجيا، والصعوبات الناجمة عن الاحتلال، عاد الاهتمام بالشهادة، باعتبارها السلاح الوحيد المتاح، للتغلب على صعوبات الحياة.
وفي زمنٍ سابق كان الخرّيج يجد له عملاً بسهولة سواء في الداخل، أو من خلال العمل في دول الخليج، قبل أن تغلق هذه أبوابها أمام العمالة الفلسطينية، وقبل توطين عملية التوظيف.
تغيّرت الدنيا، وتغيّرت وسائل التعامل مع الحياة، لكن النظام التعليمي في فلسطين لم يتغير، ولم تتغير طقوس الاهتمام بنتائج الثانوية العامّة، إلى المستوى الذي نراه اليوم، وينطوي على مبالغة شديدة، وكأنّ الناجح أو المتفوّق قد اجتاز الفضاء الخارجي.
بالتأكيد ثمة شعور بالاعتزاز، والفخر لعدد المتفوّقين في الثانوية العامّة، ولكن هذا الشعور النفسي، لا يعكس أبداً حالة متطوّرة من استخدام العقل، والتنوير والإبداع.
لا نقلّل أبداً من قدرات الطالب الفلسطيني في التحصيل العلمي، لكن هذه القدرات مبنية على نظام تعليمي يعتمد على التلقين والقدرة على الحفظ، بما يؤدي إلى حالة من الكسل الذهني الإبداعي.
في الغالب فإن بعض المتفوقين، لن يحتاجوا إلى الدرجات العالية جداً، لاختيار تخصصات متناسبة مع مستوى التفوّق.
هذا يعني أن مستوى من التفوق هو حاجة للأهل الذين يتباهون، بذكاء أبنائهم ما يعني أنهم هم أذكياء لكن هذا الشعور يبقى مؤقتاً، ثم يضيع عند الدخول في مرحلة الدراسة التالية، بسبب صعوبات الحياة، وضعف الإمكانيات المادية.
وكيل وزارة العمل في غزة إيهاب الغصين، قدم للطلاب الناجحين نصائح مهمّة، من غير المرجّح أن يقتدي بها الأهل والطلاب.
يرى الغصين أن على الطلاب أن يتجنّبوا اختيار سبعة عشر تخصّصاً، لأن مثل هذه التخصّصات لا فرصة لها للعمل.
التخصصات التي استثناها الغصين من جدول الاختيارات هي الأخرى، لا تضمن لصاحبها أن يجد له عملاً، يتناسب مع التخصّص فالبلاد مليئة بالأطباء وأطباء الأسنان، والصيادلة، والمهندسين من كل الأنواع، ثم ينصح الطلاب بأن لا يختاروا ما يختاره لهم الأهل وأن يبحثوا عن تخصصات يحبّونها، ويبدعون فيها.
الأمر صعب إلى حد كبير، ذلك أن هناك عملية قطع بين مراحل الدراسة الابتدائية والإعدادية والثانوية، مع المرحلة اللاحقة، فالطالب لم يتأسّس في الأصل على تنمية المواهب، وتعزيز الاختيارات التي تتناسب مع رغبة ومهارات الطلاب، ولذلك كان من الصعب بعد ذلك أن يختار الطالب، إلّا ما يعتقد أنه يساعده على العمل.
ثم ماذا ستفعل الجامعات المنتشرة في البلاد، وكلها تتوسع في التخصّصات، من دون حساب، ومن دون تنسيق بين بعضها البعض؟
صحيح أن أوضاع فلسطين الاجتماعية صعبة مع الاحتلال، ولكن ينبغي إجراء تغيير جذري على النظام التعليمي، بحيث يتواكب مع تطورات العصر، وحاجات السوق ليس فقط الفلسطينية وإنما الخارجية.
شباب فلسطين لديهم قدرات إبداعية غاية في الأهمية، ولكن من خارج الحاضنة التعليمية المعتمدة.
وبالمناسبة لماذا يتم اعتماد مفتاح الالتحاق بالجامعة إلى ما فوق ستين، فالناجح، هو ناجح ومؤهّل لأن يلتحق بالجامعة أو المعهد، حسب رغبته، طالما أن أمر التخصّصات بالعلاقة مع حاجات المجتمع، لا علاقة له بالتخطيط، أو بالحدّ الأدنى من التخطيط والسيطرة.
ثمة كفاءات كبيرة في مختلف التخصّصات، مشهود لها اليوم، ومن بينهم خبراء ووزراء، وقامات، حصلوا على درجاتٍ قليلة في الثانوية العامة، فلماذا يُحرم هؤلاء؟