يُرجع محللون الحرب الإسرائيلية الجارية ضد المقاومة في قطاع غزة إلى سببين: الأول، اقتراب موعد الانتخابات الإسرائيلية والتنافس بين قوى اليمين فيها، ومحاولة يائير لبيد ذي الخلفية العسكرية الضعيفة إقناع الجمهور الإسرائيلي بقدرته على اتخاذ قرارات الحرب. والثاني، تحديد إيران خصماً رئيساً في المرحلة المقبلة، وهو ما يقتضي ضرب مناطق نفوذها المنتشرة في المنطقة العربية لإضعافها وحملها على التراجع. من هنا، تركزت الضربات على حركة الجهاد الإسلامي وذراعها العسكرية "سرايا القدس"، المعروفة بعلاقتها الوثيقة بإيران التي يزورها الآن الأمين العام للحركة، زياد نخالة. وعلى ما في هذين التحليلين من وجاهة نسبية في بعض جوانبهما، إلا أنهما عاجزان عن تبيّن الأسباب الحقيقية لاندلاع المعركة في هذا الوقت، بعد هدوء شهده قطاع غزة منذ معركة سيف القدس في مايو/ أيار 2021؛ حينها نجحت المقاومة في ربط غزة المحاصرة بالوطن كله، في القدس والضفة والمناطق المحتلة منذ عام 1948، وأعادت توحيد الشعب والوطن والأرض في دائرة الصراع مع العدو، بعيداً عن التقسيمات الزائفة، ودشّنت بذلك مرحلة جديدة في النضال الوطني الفلسطيني، امتزج فيها الفعل العسكري مع الحراك الشعبي، وصواريخ غزة مع هبّات القدس والضفة والمدن الفلسطينية المحتلة. وهو فعلٌ استمرّ في التصدّي لاعتداءات المستوطنين على المسجد الأقصى والدفاع عن الشيخ جرّاح وسلوان وبيتا، والتصدّي لمسيرة الأعلام، وترافق ذلك مع زيادة وتيرة العمليات، الفردية منها والمنظمة، وتشكيل كتائب جنين ونابلس وطوباس وطولكرم، بمبادرة من حركة الجهاد، ومشاركة وحدات من كتائب الأقصى الخارجة عن طوع قيادة السلطة الفلسطينية وأجهزتها.
المطالب الإسرائيلية تحدّدت بوقف تمدد المقاومة وتشكيلاتها المستحدثة في الضفة الغربية
ألقت تصريحات زياد نخالة الضوء على حقيقة ما يحدث، فقد أشار إلى أن الوساطة المصرية استمرّت خلال الأيام الماضية لنزع فتيل الانفجار، وأن آخر الاتصال كان قبل ساعة من بدء الغارات الإسرائيلية. واللافت في موضوع المفاوضات أن المطالب الإسرائيلية تحدّدت بوقف تمدد المقاومة وتشكيلاتها المستحدثة في الضفة الغربية، في حين اقتصرت مطالب "الجهاد" للوسيط المصري، بحسب نخالة، على معالجة وضع أسير مضرب عن الطعام، والإفراج عن القيادي البارز في الحركة، الشيخ بسام السعدي. ولم تتطرّق الوساطة إلى الوضع في قطاع غزة الذي كان يشهد هدوءاً نسبياً، وتركزت على الأوضاع في الضفة الغربية.
من هنا، يمكن فهم تركيز الاحتلال الإسرائيلي على حركة الجهاد الإسلامي، نظراً إلى دورها اللافت، أخيراً، في تشكيل كتائب جغرافية في أنحاء مختلفة من الضفة الغربية وتصدّيها لقوات الاحتلال عند مداهمتها هذه المناطق التي أضحت بمنزلة بؤر ثورية خارجة عن سيطرة أجهزة أمن السلطة الفلسطينية، وشكّلت حالة مسلحة في مواجهة القوات الإسرائيلية، وكذلك محاولتها تحييد حركة حماس في هذه المعركة، وتركيز جهدها على ضرب "الجهاد الإسلامي" وسراياها. ومعروف أن "حماس" لم تتجه إلى تشكيل أجنحة عسكرية شبه علنية في الضفة الغربية أخيراً على نحو ما فعلت حركة الجهاد، بل احتفظت بتشكيلاتها ضمن إطار العمل السري.
في اليوم الثاني للعملية العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة، استمرّت القوات الإسرائيلية بالتركيز على ضرب أهداف لسرايا القدس، وردّت السرايا بإطلاق قذائف وصواريخ على حزام المستعمرات الإسرائيلية المحيط بقطاع غزة، وصولاً إلى بلدة عسقلان، ومن المتوقع امتداد القصف الصاروخي جزئياً إلى محيط تل أبيب، كما لوّح بذلك نخالة. وقد شاركت بعض تشكيلات المقاومة (ضمن إمكاناتها) في عمليات القصف، لكن لم يسجل، حتى ساعة كتابة هذه المقالة، مشاركة فاعلة من كتائب عز الدين القسام التابعة لحركة حماس في العمليات العسكرية، ما قد يعيدنا إلى سيناريو عام 2019 عندما اغتالت القوات الإسرائيلية الشهيد بهاء أبو العطا، قائد المنطقة الشمالية في سرايا القدس (الموقع الذي شغله الشهيد تيسير الجعبري الذي اغتيل في بداية المعركة الحالية)، حينها قاتلت "الجهاد الإسلامي" منفردة، ولم تشارك حركة حماس، واستمرّت المعركة 48 ساعة أطلقت فيها السرايا 450 قذيفة صاروخية.
طالت المعركة أو قصرت، يجب عدم السماح بفصل الضفة الغربية عن غزة نضالياً، والإبقاء على وحدة المقاومة
ليس السيناريو السابق حتمياً بالضرورة، فالمعركة بدأها العدو الذي نقل وحدات مختارة، مثل فرقة غولاني، ووحدات مدرّعة إلى حدود غزة، واستدعى 25 ألف جندي من قوات الاحتياط، وتطورات المعركة تعتمد بشكل رئيس على خطة العدو المبيّتة، وتصريحات قادته لم تحدّد مدىً زمنياً لها، وإن كان ثمّة توقعات بامتدادها أسبوعاً، بحسب بعض قادته، إلا أن الاحتمالات تبقى مفتوحة تبعاً لما يبيّته العدو، وفي ضوء مشاركة حركة حماس، ومدى قدرة الجهات الوسيطة على الضغط على مختلف الأطراف. وهي أمورٌ قد تتضح خلال الساعات القليلة المقبلة.
ليس مهماً كم ستستمر هذه المعركة، ولا من يشارك فيها أو لا يشارك، بقدر ما يهم إدراك أهدافها، ونيات العدو منها. ما يسعى الاحتلال لتحقيقه شنّ هجوم مضاد ينهي النتائج الإيجابية لمعركة سيف القدس عام 2021، والمتمثلة أساساً بوحدة النضال الفلسطيني، وربط غزة بباقي أجزاء الوطن وقضاياه. ما يهدف إليه العدوان، فصل الضفة الغربية وفلسطين المحتلة عن غزّة، وإنهاء ظاهرة الامتداد المسلح في الضفة، وضرب التضامن الجماهيري في باقي أجزاء الوطن، ولهذا حُشدَت عشر كتائب من قوات حرس الحدود في البلدات الفلسطينية في مناطق 1948، لضرب أي حالة تضامن قد تنشأ. المهم، طالت المعركة أو قصرت، وهي احتمالات ما زالت مفتوحة، يجب عدم السماح بفصل الضفة الغربية عن غزة نضالياً، والإبقاء على وحدة المقاومة ضمن تقدير موقف سديد، وعملاً بقاعدة "التمس لأخيك عذراً"، إذ قد يكون ثمّة حكمة في توزيع الأدوار، ولعل الرد الشافي على الجرائم الصهيونية يخرج من قلب الضفة ذاتها.