حتى كتابة هذا المقال كانت إسرائيل قد ألقت على قطاع غزة 160 طناً من المتفجرات قبل أن تطلق عليها رصاصة واحدة، 160 ألف كيلو من مواد القتل وسط صمت دولي وقبل أن يفيق الضمير الأميركي المصاب بالعمى المزمن، والذي لم يعد يميز من بدأ بالتصعيد في مسلسل التعامي المستمر على نمط جهله بهوية قاتل شيرين أبو عاقلة وهكذا.
ليس الأمر بحاجة إلى الكثير لمعرفة أن هذا الالتواء الساخر في الموقف الأميركي الذي يتضامن مع إسرائيل التي «تدافع عن نفسها «والذي جر معه الكثير نحو حياد جارح ليس أكثر من موقف التواءة بهدف دعم يائير لابيد ورفع خطوطه أمام خصمه بنيامين نتنياهو في الانتخابات القادمة مطلع تشرين الثاني، فقد دعمت سلفه نفتالي بينيت بما يكفي للصمود في وجه زعيم الليكود بما فيها زيارة الرئيس بايدن نفسه منتصف الشهر الماضي قبل أن تتم الإطاحة به، والآن ليس لديها سوى ثنائي لابيد - غانتس في محاولة لمنع عودة زعيم الليكود اللدود.
كيف بدأت الحرب؟.
هو السؤال الذي يجيب عن ما جرى ويجري، اعتقلت إسرائيل الشيخ بسام السعدي من جنين، والاعتقالات في الضفة لم تكن يوماً سبباً للحروب.
ولكن إسرائيل لمن يتابع الأحداث كانت تصنع مناخات الحرب وتجهز المسرح للخيار الوحيد الذي تحضرت له، وقد فاجأتنا بإجراءات واحتياطات حربية وإغلاق للمناطق القريبة من قطاع غزة ومنع تجول ومنع أعمال الزراعة ووقف حركة المواصلات.
وفي أثناء ذلك كانت تعد العدة، تنقل معدات عسكرية وتسارع بنصبها وبمفاوضات تشي باستعصاء مصطنع لا لزوم له إلا لشيء في نفس يعقوب ويائير وغانتس وبايدن.
نحن أمام رئيس وزراء بلا خلفية عسكرية وبتاريخ صحافي كل خبرته بتوزيع الابتسامات، وهذه لا تكفي لقيادة دولة يعتبر شعبها أن التهديدات المتعاظمة التي تحيط بها وما تسمعه من تهديدات من غزة ولبنان وطهران بحاجة لرئيس وزراء قوي قادر على مواجهتها، وبالتأكيد لن يكون يائير لابيد هو الشخصية الأنسب وهذا ما تؤكده استطلاعات الرأي التي تعطي تفوقاً هائلاً لنتنياهو مقابله. فكان لا بد من حرب تدار بكفاءة تتم صناعتها ويخرج منها منتصراً نحو صندوق الانتخابات هو ووزير دفاعه في التحالف الحكومي القائم واللاحق افتراضاً بيني غانتس.
وعلى أبواب الاستطلاعات والاصطفافات تلقى لابيد ما يكفي من الهجوم من المعارضة الإسرائيلية التي تتربص به كمنافس غير مجرب وضعيف حيث المفاوضات مع الوسيط الأميركي حول غاز المتوسط مع لبنان والتي تسرب الصحافة الإسرائيلية أن حكومة لابيد تقدم فيها تنازلات لصالح حزب الله وهو ما وصفته أوساط المعارضة بالاستسلام، ثم جاء موضوع تهديدات الجهاد الإسلامي والحديث عن أنه يملي برنامجه على حكومة لابيد الضعيفة وإجراءات الإغلاق التي اتخذت على حدود غزة، ولم يعرف الجميع أنها كانت عملية تهيئة للمسرح لتقليد من سبقوا في رئاسة حكومات إسرائيل بتقليدهم الثابت في ثنائية غزة والصندوق إذا ما تتبعنا حروب غزة فقد كانت بمعظمها قد سبقت الانتخابات بأسابيع.
هي غزة اليتيمة والفقيرة والحزينة، ملعب للكبار وللصغار أيضاً ولتجربة المال والدم ومشاريع السياسة مرة بمبتدئيها وتطبيق مراكز دراساتها مرات على لحم أبنائها وتاريخها الذي لا يتحرك إلا بالدم والموت، فتحت إسرائيل معركة وبدأت بالنار دون سبب ميداني يذكر إلا الأسباب التي تقف خلفها صراعات السياسة في تل أبيب مستغلة الوضع الفلسطيني المحطم.
كانت تختار الجهاد الإسلامي وهي تقرأ طبيعة اللحظة بأن آخر ما تشتاق له غزة هو الحرب؟، فقد غادرتها أكثر من عام بقليل أثناء مسيرة القدس العام الماضي، هذه الحرب تضع فيها إسرائيل حركة حماس في موقف شديد الحرج.
فإذا ما التحقت بالحرب هذا يعني تدمير كل شيء في القطاع وخسارة بعض الانفراجات وأبرزها السماح لعمال قطاع غزة بالعمل في إسرائيل، وإن لم تدخل حماس المعركة وهذا يعني مزيداً من إضعافها بنظر الرأي العام وخصوصاً بعد حرج موقفها قبل أسابيع أثناء مسيرة المستوطنين في القدس التي أشعلت العام الماضي حرباً بسببها سيكون هذه المرة الثانية تقف فيها دون تدخل.
في الحرب على غزة ما يعطل الضوضاء الناشئة عن مفاوضات الغاز وإرسال رسائل غير مباشرة إلى حزب الله الذي بالقطع لا يريد حرباً على غزة، وفي اللحظة التي تعجز فيها تل أبيب عن إرسال رسائل مباشرة هناك بعد أن أطلق الحزب ثلاث طائرات مسيرة فوق حقل كاريش وأصدر ما يكفي من التهديدات وفي ظل صعوبة اختيار وسيلة للرد تضمن ألا تستفز الحزب كان الرد من خلال هذا الاستعراض في غزة ولفت الأنظار لها يصرف الأنظار عما يحدث هناك من مفاوضات على الطاولة أو بالمسيرات.
هل سيتوقف العدوان بسرعة؟
السؤال الذي بدأ يطرح مع أول صاروخ سقط على غزة حيث مسار المعركة يعطي لمرشحي الانتخابات في الحكومة الإسرائيلية القائمة قدراً من التفوق والاستعراض، وخصوصاً أن إسرائيل تتحدث منذ اللحظة الأولى عن تحييد حركة حماس والفصل بينها وبين الجهاد الإسلامي ما يجعل جيشها أكثر قدرة على التحكم والسيطرة وهي تدرك مسبقاً، وبالتجربة فحركة الجهاد الإسلامي عادة ما تخوض معاركها وحدها فقد رفضت الوساطة المصرية قبل الحرب ولم تكن تقبلها، وفي ظل الأصوات الإسرائيلية التي كانت تتهم الحكومة بالخضوع لبرنامج الجهاد الإسلامي فليس من المتوقع أن تقبل بهذه السرعة تلك الوساطات في معركة ترد فيها على الأصوات المعارضة وتحرز هذا القدر من التفوق وعلى الأغلب أنها تحتاج مزيداً من الوقت لجمع أوراق أكبر تذهب بها للصندوق.
هو السؤال الذي يصبح ملحاً مع كل حرب إلى متى تبقى غزة تدور في هذه الحلقة العابثة من الحروب والموت والدمار ولقمة سائغة للجميع؟.
ببساطة إلى أن يدرك الفلسطينيون أن تجربة غزة وعزلها لم تنجح بجعلها قاعدة انطلاق المشروع الوطني، وخصوصاً بعد أن بدأت تجربة المقايضة والتسهيلات حيث بدأت تدخل معادلة مختلفة ولا خيار لحماية الناس إلا بإنهاء هذه الحالة من خلال نظام فلسطيني واحد وبرنامج واحد، أما دون ذلك ستبقى غزة رهينة مصالح الجميع إلا أهلها تتلقى الضربات بلا رحمة.