مات ميخائيل غورباتشوف بعدما عاش أقلّ قليلاً من قرن، ولقد شاءت أقدار الرجل أن يكون عنواناً لأهمّ حدث في التاريخ المعاصر، فهو الذي وضع توقيعه على شهادة وفاة الدولة العظمى التي كانت تسمّى الاتّحاد السوفياتي.
شاءت أقداري أن أعمل سفيراً لبلدي لديه، منذ بداية عهده حتى نهايته، وفوق ذلك سنة إضافية سفيراً لدى دولة روسيا الاتّحادية، التي توّجت بوريس يلتسن رئيساً لها بعدما أدّى دوراً جوهرياً في تفكيك الدولة العظمى.
صدفة قدرية مذهلة أن تشاهد بأمّ العين انهيار نظام حديدي بلمح البصر، وتفكّك دولة كان جيشها قد كسب الحرب العالمية الثانية ليتقاسم غنائمها مع المنتصرين الآخرين، وليصبح الاتحاد السوفياتي القطب الكوني المرعب، والشريك المرهوب الجانب في تقرير مصائر البشرية.
شاهدت الدبّابات السوفياتية العملاقة تحتلّ موسكو تحت عنوان إنقاذ الدولة العظمى من الانهيار، غير أنّ استدارة مدفع الدبّابة التي كانت ستدكّ مقرّ الانفصالي بوريس يلتسن جسّدت استدارة دراماتيكية نحو اتجاه معاكس لم يُفشل الانقلاب وحسب، بل غيّر مجرى التاريخ.
الرغبة تنتج خراباً
عهد غورباتشوف سمّاه صاحبه البيريسترويكا والغلاسنوست، أي إعادة البناء والشفافية. كان في الأمر تبسيط يصل حدّ السذاجة، بل ومغامرة كبرى تعامل روّادها مع الهدم وإعادة البناء كما لو أنّهم يفكّكون مبنى من مكعّبات الليغو، ليعيدوا بناءه من جديد، غير أنّهم اكتشفوا مبكراً أنّ ما هدمته الرغبة دون القدرة ينتج خراباً لا بناء جديداً.
النتيجة الأوّليّة التي هي الأخيرة أنّ الدولة العظمى تفكّكت بعدما انفصلت المداميك الروسية التي لا بناء من دونها، وازدهر الحنين الأوكراني الذي هو المدماك الثاني إلى أوروبا الأمّ، وكأنّ التخلّص من النظام السوفياتي سيؤدّي تلقائياً إلى أن تتحوّل كييف وخاركوف إلى لندن أو باريس. وبدأ العديد من الجمهوريّات يفتّش عن ولاءات جديدة أسفرت عن حصار روسيا، ومِن قِبَل مَن؟ الخصم اللدود الناتو.
لم يكن غورباتشوف عرّاب المحاولة مع أنّه كان عنوانها أو واجهتها، فقد كان معه مغامرون أكثر حماسةً منه للتخلّص من «فَشَلات» التجربة السوفياتية، وقد تمكّن هؤلاء بدعم مباشر من الغرب بكلّ فصائله وقواه من إقصاء المحافظين المتبلّدين، فجرت أوسع عمليّة استبدال للقادة والكوادر والاتّجاهات.
في زمن قياسيّ انتهت الدولة العظمى لتحلّ محلّها دول وريثة، وها نحن نرى جانباً من جوانب المجازفة من خلال ما يجري الآن مع أوكرانيا وأوروبا والعالم.
تبدل الأحوال بين الفلسطينيين والسوفيات
بعد وصولي إلى موسكو للعمل ممثّلاً لمنظمة التحرير في الدولة العظمى التي تعترف بنا، إذ كنّا بالنسبة إلى السوفيات في مرحلة ما قبل غورباتشوف مشروع استثمار في استقطابات الحرب الباردة، شرعت في تنفيذ مهمّتي الأولى والعاجلة، وهي الإعداد لزيارة الرئيس ياسر عرفات، والإعداد للّقاء الأوّل بين قائد الثورة المهمّة في الشرق الأوسط وقائد الثورة العظمى على مستوى العالم.
عرفت بعد مشاورات مكثّفة مع دبلوماسيين وحزبيين وأمنيّين أنّ انقلاباً في السياسة يجري بتسارع في موسكو أساسه استبدال توازن القوى كأساس بتوازن المصالح، وفي هذا السياق سيكون الموقف السوفياتي من القضية الفلسطينية مختلفاً عمّا كان عليه إبّان استقطابات الحرب الباردة، «ولهذا سيتمّ التعاون مع الأميركيين والأوروبيين لبلوغ تسوية تقوم على أساس القرار 242 الذي سينصحكم الرئيس غورباتشوف بإيجاد طريقة للاعتراف به، فلا دور لكم في التسوية من دون هذا الاعتراف».
توازن المصالح، ولكي يستفيد الفلسطينيون منه، كان يتطلّب دولة سوفياتية قويّة، غير أنّ الذي حدث كان ينبغي توقّعه، وهو أنّ توازن المصالح وفق الحسابات السوفياتية الجديدة أعاد العلاقات الكاملة مع إسرائيل، وأسفر عن مصالحة تاريخية مع الصهيونية العالمية وراعيتها الأميركية والغربية، إذ انفتح باب الهجرة اليهودية على مصراعيه إلى إسرائيل، وذلك من خلال تعديل قوانين السفر التي جعلت مغادرة المواطن السوفياتي إلى أيّ مكان أمراً متاحاً لكلّ من يرغب.
لقد شاهدنا أولى ثمار التوازن من خلال رؤيتنا للدور السوفياتي في مؤتمر مدريد حيث كان دوراً باهتاً لا وزن له. إذاً أضعفت مجازفة غورباتشوف ورفاقه النفوذ المفترض للدولة السوفياتية في السلب والإيجاب ليس فقط في ما يخصّ القضيّة الفلسطينية، وإنّما في ما يتّصل بالقضايا الإقليمية جميعاً.
غورباتشوف صدع المركز والأطراف
صحيح القول، إنّه لو لم يفعل غورباتشوف ومَن معه ما فعلوه في الدولة العظمى، فإنّ نهايتها كانت حتميّة. إلا أنّ الرجل الذي مات قبل أيّام قليلة عن عمر أطول من عمر الدولة السوفياتية نجح في اختصار فترة الاحتضار بأن حرّر شهادة الوفاة على نحو مبكر.
خلاصة القول، وهذا أمر استفادت منه الصين كثيراً: إنّ أخطر ما فعله غورباتشوف ومَن معه هو إضعاف مركز الدولة وخلخلة أساساتها، بحيث تمّ أداء التحوّلات الجذرية الكبرى في السياسات بأدوات ضعيفة مفكّكة. كان إنهاء دور الحزب المركزي، الذي بُنيت قوّة الاتّحاد السوفياتي على أساساته الصلبة، قد أدّى تلقائياً إلى إضعاف القدرات على التغيير، وأدّى أيضاً إلى طغيان الفوضى داخل المؤسّسات الإدارية والإنتاجية التي كانت تُدار بقبضات حديدية، فحين ارتخت القبضات ارتخت مفاصل الدولة.
تفكّك الاتحاد السوفياتي ونجت الصين من التفكّك. في موسكو ضعف المركز وشُلّت الأطراف، وفي بكين قوي المركز وقويت الدولة. فها نحن نرى الصين التي حكمها ولا يزال يحكمها حزب شيوعيّ تتقدّم على مستوى العالم في كلّ المجالات. لقد استفادت كثيراً من الدرس السوفياتي.
عودةً إلى الراحل غورباتشوف.. لم يكن في واقع الأمر رسول سلام جنّب العالم حرباً نووية، بل كان بالضبط زعيماً طارئاً على دولة عظمى ارتجل بتشجيع من الغرب سياسةً لا تفضي إلّا إلى هدم القائم وعدم قيام كيان جديد.