مطلع هذا الأسبوع تراجعت الاندفاعة التي غطت مساحة الشهر الماضي بأن توقيع الاتفاق النووي مع طهران بات قاب قوسين أو أدنى، فقد كانت المسافة قد اقتربت بين المتفاوضين ولم يبقَ إلا المصادقات النهائية بل ونشرت وسائل الإعلام المراحل الأربع لتنفيذ الصفقة وجدول التزامات كل طرف خلال الأشهر الخمسة التي يعلن فيها بدء سريان الاتفاق بعد يوم التوقيع بأشهر خمسة وبجداول زمنية دقيقة.
كانت هذه الأخبار تصل إسرائيل تباعًا مثيرة حالة من القلق والغضب والخلاف مع واشنطن ليتقاطر قادة الأمن إلى العاصمة الأمريكية في محاولة أخيرة لعرقلة الاتفاق الذي بدا أن واشنطن على وشك وضع بصمة بيتها الأبيض عليه، أو على الأقل إذا لم تتمكن إسرائيل من عرقلته فعلى الأقل وضع رؤية على شكل بنود يمكن للطرف الإيراني رفضها وبالتالي ينتهي الاتفاق قبل توقيعه.
إسرائيل كانت غاضبة، تراجع قادة السياسة إلى الوراء ليتسلم الأمن إدارة الأمر ومع الأسبوع الأخير من آب كان مستشار الأمن القومي إيال حولاتا في واشنطن تبعه وزير الدفاع بني غانتس وبعده سافر رئيس الموساد ديفيد بارنيع حاملا معه ما يكفي من الملفات وهو خبير بالشأن الإيراني، وبالرغم من تملص الرئيس الأمريكي من إجراء مكالمة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي وإن تمت بعد أسبوع لكن الأخبار عادت لتتحدث عن تراجع وانتكاسة في المفاوضات.
هل تمكنت إسرائيل من التأثير على واشنطن ونجحت في عرقلة الاتفاق؟ الإجابة الطبيعية لمن تابع اتفاق 2015 في عصر أوباما ومن راقب هستيريا إسرائيل خلال الأسابيع الماضية ولمن يقرأ التوازنات الدولية وموقع إسرائيل والمصالح الدولية والتي تكثفت بعد الحرب الروسية على أوكرانيا يدرك أن موقع ومكانة وإمكانيات إسرائيل لا تؤهلها لهذا القدر من التأثير على المصالح الأمريكية، فواشنطن لديها ما يكفي من الصداع الدولي الذي لم يتوقف عن طرق الرأس الأمريكي بالمطرقة الصينية الثقيلة مرة وبالروسية مرة أخرى.
مطرقة الغاز التي استجدت على واشنطن وتأثيراتها على الاقتصاد الأوروبي والتي لم تكن بالحسبان وهي ما أحدثت تلك الاندفاعة تجاه طهران باعتبار أن إيران تملك أحد أكبر مخزونات الغاز في العالم، لذا بات استدعاؤها ضرورة اللحظة التاريخية التي يحتاجها النظام الدولي على عجل غير آبه بالاحتجاجات الإسرائيلية، فالعالم عند مصالحه ومواطنيه والنظام السياسي عند مصلحته بأي دولة بالعالم مستعد لأن يتجاهل أقرب حلفائه.
لم تكن احتجاجات إسرائيل نابعة من الخوف من امتلاك إيران قنبلة نووية، فتلك لا تعني الكثير مع دولة مثل إسرائيل تجهزت للرد على أي سلاح نووي حيث نقلت جزءا كبيرا من ترسانتها النووية في غواصات تجوب البحار وتمنع الاقتراب من الشواطئ الإسرائيلية وتلك مجهزة لما تسميه «ضربة شمشون» والمجهزة لإلقاء كل ما لديها لحظة ضرب إسرائيل بالنووي أي أن ضرب إسرائيل يعني مسح إيران، والأخيرة ليست بتلك العقلية المغامرة حتى تضرب إسرائيل، تلك توازنات القوة.
الاتفاق مع إيران هو السبيل الوحيد لمنعها من حيازة السلاح النووي، حيث يضع رقابة دولية ويمكنها من مراقبة منع العمل بالمشروع النووي ويفكك أجهزة الطرد في مفاعلاتها، وهنا مأزق إسرائيل التي تتحدث فقط عن السلاح النووي وها هو العالم يعالجه فماذا تريد أكثر؟ لأن ليس لديها المشروعية السياسية والأخلاقية للحديث عن تخوفاتها الحقيقية ورغباتها بشكل صريح، فرغبة إسرائيل منذ عقود تمثلت بهجوم عسكري على إيران بهدف تدميرها وتحطيمها وتحويلها إلى دولة على نمط العراق أو ليبيا وليس الاتفاق معها.
فتخوفات إسرائيل تنبع من ممكنات القوة الأخرى، الاقتصادية والبالستية وامتداداتها الإقليمية وأبرزها حزب الله الذي يقف متأهباً على صنبور حقل كاريش، وكذلك أيضا وهذا على درجة من الأهمية بأنه إذا ما تحقق الاتفاق مع طهران وتوقف الصراخ عن القنبلة وهدأ العالم ماذا يبقى لإسرائيل كي تسوق نفسها ضحية؟ وهذا الملف كان عنصرا مهما لإسرائيل للتغطية على الاحتلال ووقف عملية السلام مع الفلسطينيين، فمن يجرؤ على فتح هذا الموضوع مع تل أبيب بينما يجهز عدوها نفسه لتدميرها كما كان يسوق نتنياهو لعقود؟ اتركوها وشأنها تحصن ذاتها من الدمار والاستهداف من أذرع إيران ومن الفلسطينيين!
تدرك إيران التي تجيد التفاوض بهدوء فرصة اللحظة التاريخية التي وفرها الروسي، وهي لحظة وضعت طهران في موقع القوة تفاوضيا. فاقتصادات العالم يزداد جوعها للغاز ولديها 56 مليار متر مكعب وهي ثروة ضخمة، صحيح أنها ضرورة لإنقاذ الأزمة ولكنها بحد ذاتها هي أزمة إسرائيل الحقيقية حيث امتلاك إيران لعائداتها الضخمة وأموالها.
ما تسرب عن المفاوضات لا يكفي لمعرفة ما يدور، إذ تجري بسرية تامة جعلت المراقبين في حيرة هل سيوقع الاتفاق قريبا وحجم التنازل لدى الأطراف ولكن أغلب الظن أن وقف اندفاعة الأسابيع الماضية ليس بسبب إسرائيل التي تبدو صغيرة أمام المصالح الكونية وصراعاتها واقتصادها، بل يمكن التكهن أنه بسبب التمنع الإيراني الذي اكتشف حجم اللهفة الأمريكية والدولية ويتفاوض بأعصاب باردة متوقعاً أنه يمكن أن يبتز الولايات المتحدة في ظل هذا الانكشاف والوضوح الدولي وانكشاف اقتصاداته وحاجاته الملحة.
الاتفاقية التي وقعتها إيران مع الصين بـ 400 مليار دولار ربما كانت واحدة من بنود التفاوض حيث الصراع الأمريكي الصيني الذي يتمدد على جغرافيا واسعة وكذلك التقارب الإيراني الروسي بعد أن حدث تنافس خفي مع نهايات الحرب في سورية، ما تلقته طهران في القمة الثلاثية التي عقدت الشهر الماضي بحضور بوتين المنشغل في إدارة الحرب والرئيس التركي يزيد من قوتها وينعكس بالتأكيد على المفاوضات لترفع من سقف تصوراتها في لحظة من غير المتوقع أن تفوتها وهي صاحبة تجربة في هذا المجال.
هنا حصل الاستعصاء، لكن وارتباطا بالواقع الدولي من غير المتوقع أن يؤثر كثيرًا في مسار الذهاب نحو الاتفاق لأن الحاجة والمصلحة الدولية تتطلب إنجازه. فالمفاوضات لم تفشل والرسائل والمسودات لم تتوقف بين واشنطن وطهران وكبرى العواصم وإرادة المجتمع الدولي لديها الرغبة لإتمامه والدور الأوروبي الخاسر عالميا والفاعل تفاوضيا والكاسب اتفاقيا يلعب دورًا كبيرًا في سبيل إنجاحها، وأمريكا لديها رغبة لفصل إيران عن الصين وتغطية النقص الدولي بالغاز مقابل روسيا لذا يبدو الأمر أشبه بمعركة عض الأصابع في مراحلها الأخيرة. فمن يصرخ أولًا سيوقع أولًا.