اعترف رئيس هيئة أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي أفيف كوخافي بأنه منذ بدء ما تسميه إسرائيل بعملية «كاسر الأمواج» التي بدأت منذ الحادي والثلاثين من شهر آذار الماضي، اعتقلت قواته نحو ألف وخمسمائة فلسطيني، وصفهم بالمطلوبين للأجهزة الأمنية الإسرائيلية، هذا إضافة بالطبع إلى اغتيال العشرات ميدانياً، وهدم العديد من المنازل، والاقتحامات اليومية خاصة لمدن شمال الضفة الغربية (جنين ونابلس)، مستخدمة المدافع والصواريخ، والعربات المصفحة، كل ذلك بشكل يومي منذ ذلك اليوم، أي منذ مطلع شهر رمضان وحتى اليوم، وما تخلله من حرب خاطفة على قطاع غزة، اسمتها «بزوغ الفجر»، ارتكبت خلال 55 ساعة فقط، جرائم حرب عديدة، منها جريمة قتل خمسة أطفال في جباليا.
بعد «كاسر الأمواج» تتحدث إسرائيل هذه الأيام عن عملية «جز العشب»، لوصف عملية إعادة احتلال كل الضفة الغربية بما فيها مناطق ولاية السلطة الفلسطينية، والتي تجري بشكل مستمر ومتتابع، ودون سقف زمني محدد، تحاول إسرائيل خلالها إلقاء القبض على الشباب الفلسطيني الثائر، بعد أن وصلت الأمور إلى وضع لا يطاق، وحيث أن الإسرائيليين أنفسهم بدؤوا يلاحظون بأن المقاومين استبدلوا الحجر والمقلاع بالسلاح الناري، وأن الشباب الفلسطيني الذي يقاوم الاحتلال والمستوطنين، في مطلع العشرينيات من عمره، أي انه ولد بعد أوسلو، وحتى بعد انتفاضة الأقصى، أي بعد الانتفاضتين الأولى والثانية، وبالتالي، لا يعود الأمر لا إلى تحريض كانت تقول به إسرائيل وترجعه لمنظمة التحرير وفصائلها، لكن اسرائيل بالطبع كما يفعل النعام عادة، تضع رأسها في التراب فتظن بأن أحداً لا يراها، وإسرائيل ما زالت تصر على معالجة المقاومة ليس بكونها رد الفعل الطبيعي على الاحتلال، بل تعالجها معالجة أمنية، وتصر على اعتقال وقتل كل من يقاوم احتلالها!
وحقيقة الأمر، أنه رغم أن مقاومة الاحتلال الإسرائيلي من قبل الشعب الفلسطيني في كل مكان، وفي القدس والضفة الغربية، لم تتوقف يوما، إلا أن وتيرة المقاومة شهدت تزايدا، كما ارتقى شكل المقاومة عن الحجر والمقلاع، وحتى عن عمليات الطعن بالسكاكين، بل أنه تجاوز تنفيذ العمليات الخاطفة التي بعضها يكون من قبل استشهاديين، داخل الخط الخضر، حيث بات المقاومون يواجهون جيش الاحتلال حين يقتحم مدن ومخيمات الضفة الغربية، بإغلاق منافذ المدن والمخيمات، واستقباله بوابل من الرصاص، أي الاشتباك معه بالسلاح الناري، وحقيقة الأمر أن الأمر لم يعد محدوداً، أي محصوراً بأفراد، أو بمنطقة ما، بل يشكل إلى حد ما رادعاً للعدو، ويعيد للذاكرة ما كانت عليه غزة بعد احتلالها عام 67 بقليل، حين كان الفدائيون يفرضون الاختباء على جيش الاحتلال في الليل.
أما في سرد الأسباب المباشرة لارتفاع منسوب المقاومة المسلحة، واتساع رقعتها واشتداد شوكتها، لدرجة أن الاحتلال نفسه يحاول_كما أسلفنا_ منذ ستة شهور مضت، اقتلاع شوكتها، وما زال يفشل، بما يعني بأن الأمر لن يعود إلى الوراء مجددا، إسرائيل من ضمن ما تعدده من أسباب، تقول بأن تصاعد العمليات يعود جزئياً إلى استنفاد آليات الأمن الفلسطينية، أو بوصف أوضح كما قال كوخافي، إن تصاعد العمليات سببه ضعف أجهزة الأمن الفلسطينية، وقد يكون هذا فيه شيء من الصحة، لكن كوخافي لم يسأل نفسه، لماذا باتت أجهزة الأمن أضعف اليوم مما كانت عليه ؟ وبالطبع هو لا يمكنه ان يفكر في أن رجال الأمن الفلسطيني مواطنون ينتمون إلى فلسطين، وانهم كانوا يحافظون وبتوجيهات من قياداتهم على الأمن الداخلي وعلى الأمن على حدود التماس، التزاما باتفاقيات وسعياً وراء حل سياسي، أما وأن إسرائيل لا تلتزم بالاتفاقيات وقد أغلقت كل أبواب ونوافذ الحل، فإن أحدا من الفلسطينيين لم يعد مقتنعاً بمصلحة مشتركة في أمن مشترك، ولعل اعتقال اسرائيل عددا من أفراد الأمن خاصة في نابلس، واعتبارهم اعضاء في كتائب الأقصى خير تأكيد على ما نقول.
المهم أن كوخافي ما زال يتوعد، وهو من يقود التنفيذ العسكري لسياسة حكومة لابيد/غانتس، حيث قال خلال المؤتمر التعليمي لهيئة الأركان العامة، الذي جاء لتلخيص تمرين «عربات النار» بأن جيشه سيواصل عملياته ضد الفلسطينيين، وتوعد بالوصول إلى كل مدينة او حي او زقاق أو منزل أو سرداب لملاحقة المقاومين.
يبدو الجيش الإسرائيلي وهو يواصل إطلاق التسميات الغريبة على عملياته العسكرية، كما لو كان مقاولا حربيا، أو جيش مرتزقة، تكون العمليات بالنسبة له كما لو كانت ورش عمل، ولعل إسرائيل تحضر نفسها لحرب خارجية، لذا تحلم بكتم أنفاس الجبهة الداخلية، بحيث يتسابق قادتها على حصد الأوسمة العسكرية على حساب الدم الفلسطيني، وليس حصد أصوات الناخبين فقط، وبالطبع حقيقة ذهاب إسرائيل لاستحقاق انتخابي غير حاسم، كما أن إغلاقها أبواب الحل السياسي، وما زاد الطين بلة، هي ما أعلنه جو بايدن حين زار بيت لحم، كل ذلك قد أجج المقاومة، التي هي رد طبيعي على الاحتلال كما أسلفنا، لكن ذلك لا يمنع من ارتفاع وتيرتها بين حين وآخر ارتباطا بأحداث معينة.
ولأن لكل فعل رد فعل مساوياً له بالمقدار ومعاكساً له في الاتجاه، كما قال يوماً اينشتاين، فإن المقاومة قد ازدادت وتيرتها منذ عام، اي منذ عملية جلبوع، حيث نجح الأسرى من جنين بالهرب من السجن، وكما لاحظنا، فان المقاومة الشعبية تظهر بشكل أوسع في ظل الأعياد الدينية والمناسبات الوطنية، وكل رمضان كان يحدث اشتباك وحتى حرب، أما هذا العام، فإنه من المتوقع أن ينفجر الوضع، ليس كرد فعل على الاقتحامات اليومية وعلى مشاهد تشييع الشهداء بشكل يومي، وحسب، بل ارتباطاً أولاً بالانتخابات الإسرائيلية التي ستجري مطلع تشرين الثاني القادم، وبالأعياد اليهودية، التي لا تمر بلا استفزاز للفلسطينيين المسلمين، من اقتحامات وعربدة في الأقصى وذبح قرابين، ونفخ ابواق، فعملية «جز العشب» تهدف إلى تكثيف المداهمات والاقتحامات والاعتقالات الليلية في الضفة وذلك لتأمين فترة الأعياد اليهودية التي ستبدأ برأس السنة العبرية يوم 26/27 أيلول الجاري، يتبعه يوم الغفران وهو أهم أعياد اليهود والذي يصادف يوم الخامس من تشرين الأول القادم، يليه عيد العرش ولمدة أسبوع يبدأ في العاشر من الشهر القادم، بعد ذلك بأيام يكون الإسرائيليون أمام صناديق الاقتراع.
أي أن «جز العشب» ومن قبلها «كاسر الأمواج»، لن تنتهي عمليا، حيث أن أياما تفصلنا عن مواجهات طاحنة ستعود للظهور مجددًا في ساحات القدس وباحات المسجد الأقصى، حيث سيكون الشعب الفلسطيني كله على موعد مع مقاومة الاحتلال، بعد أن خرج المارد الشاب من حالة الصمت، وبعد أن تحرك الأسرى، فأخضعوا السجان، الذي فضل أن يواجه حلقة واحدة من حلقات المقاومة، لأنه أعجز من أن يواجه شعباً يقاوم في كل الساحات والجبهات في وقت واحد وفي ثورة واحدة.