هل أدركت إسرائيل أنها تسير بسرعة جنونية في طريق باتجاه معاكس نحو الصدام ؟.
المتابع للنقاش العام في إسرائيل يمكن أن يدرك اقتراب وصولها للحائط بعد كل تلك التجربة الطويلة أو التجارب السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية، حتى يبدو أنه لا حل لأزمة تدفع بها نحو تعميق المأزق ؟
كل الإجراءات الإسرائيلية التي تم اتخاذها لعقود ترتد سلباً، وكل التذاكي الذي اتبع سياسياً لعقود يلتف حول رقبة المشروع، وكل السياسات الأمنية والعسكرية والقبضة الحديدية والسيف الذي ظل مرفوعاً لحماية إسرائيل يكتشف أنه ألقى الفلسطينيين في البطن الإسرائيلي مرة أخرى ليعود الجدل لدى النخبة الإسرائيلية محذرة من واقع زاحف ومن مستقبل متشائم في ظل سيطرة يمين مصاب بعمى الأيديولوجيا فلا يرى الحقائق أو يرى في القوة حلاً سحرياً لأزمات.
وهنا تحولت القوة التي تمكنت من ضرب الخصم وتحقيق نقاط متناثرة إلى نقطة ضعف الدولة على المدى الاستراتيجي.
كيف يمكن فهم ذلك في ظل سيطرة مطلقة لإسرائيل على كل شيء وتجريد الفلسطينيين من كل شيء ؟ كيف يمكن فهم أن الطرف الفلسطيني تحول إلى الطرف القوي في المعادلة، وأن الطرف الإسرائيلي بكل إمكانياته يتحول إلى الطرف الأضعف على المدى الاستراتيجي ؟ معادلة معقدة في ظل هذا القدر من الالتباس التاريخي والتداخل المركب هنا؟
هذا الأسبوع كان الدكتور ميخائيل ميلشتاين رئيس قسم الدراسات الفلسطينية في مركز دايان التابع لجامعة تل أبيب يقدم الإجابة عن تساؤلات كل السياسات الإسرائيلية التي اتبعت ومدى عبثيتها وخطورتها على مستقبل الدولة، وهي بالمناسبة سياسات نسبت لمراكز التفكير الاستراتيجي وكبار المفكرين آخرهم ميخا غولدمان صاحب نظرية تقليص الصراع والاستعاضة عن الحلول السياسية بخطوات اقتصادية ليقدم ميلشتاين الإجابة بأن تلك السياسات هي عملية تكرار لماضٍ أثبت فشله أمامنا جميعاً، ويعود لأكثر من خمسة وثلاثين عاماً قبيل الانتفاضة الأولى عندما كانت تتحقق نظرية تقليص الصراع والانفتاح الاقتصادي وأيضاً الانتفاضة الثانية وما سبقها مستخلصاً أن الاقتصاد لا يلغي الأيديولوجيا، هكذا قال التاريخ.
«إن النقاش في تقليص الصراع ينبع من حرج استراتيجي تعيشه إسرائيل في ضوء التعقد المتزايد في السياق الفلسطيني، إسرائيل تغرق في الفخ الذي وصفه ميخا غولدمان فهي لا تريد أن تتحكم مباشرة بالفلسطينيين وتفهم بأن ابتلاع المناطق سيهدد طابعها الحالي لكنها بالمقابل تخاف من التحديات الأمنية الكامنة في الانفصال عنهم ....إن الذين يتبنون تقليص النزاع يرون فيه وسيلة لمنع الدولة ثنائية القومية، وكون الفكرة لا تترافق مع ترسيم حدود فهي تبشر عملياً باستمرار الدمج الجغرافي والديمغرافي والاقتصادي وبالبنى التحتية حتى وإن كان بشكل طويل بعيد المدى وبطيء نسبيا» هكذا يختصر ميلشتاين عمق الأزمة الاستراتيجية.
يشارك رئيس الأركان السابق والسياسي الجديد غادي أيزنكوت المرشح المضمون على قائمة بني غانتس هواجس ميلشتاين باعتبار أن الدولة تسير نحو أزمة شديدة التعقيد في العلاقة مع الفلسطينيين ستصيب المشروع برمته، إذ يقول في لقاء مع مؤيديه: «إن أجندة الاستيطان تدفع إسرائيل إلى واقع الدولة الواحدة ...وفي نظري دولة ثنائية القومية أو الرؤية الفلسطينية بدولة واحدة تشكل خطراً كبيراً».
من سينتصر في هذا النقاش الجدي ؟. صحيح أن هذا قيل هنا مرات عديدة ونحن نحاول استشراف مستقبل الصراع عن مأزق السياسات الإسرائيلية وكلفتها على مستقبل إسرائيل، لكن الجديد أن هذا الجدل ينتقل للساحة الإسرائيلية في أوساط ينبغي أخذها بجدية فهي على درجة كبيرة من المسؤولية ولا تنتمي لليسار الإسرائيلي الذي لم يعد جزءا من النقاش العام بل نحن أمام عينة متقدمة المستوى الفكري والعسكري هذه الثنائية التي أشرفت على هندسة الدولة وتركيبها وحمايتها، أغلب الظن أن إسرائيل ذهبت في غيبوبة الأيديولوجيا الهاذية التي يعبر عنها نشوء وتمدد التيار البنغفيري وانتقاله من المجتمع لمركز السياسة.
الجدل حول الديمغرافيا كان قد ترافق مع الجدل النخبوي عن أزمة السياسة، حيث الترابط الشديد في دولة تصحو كل صباح وأول ما تقوم به هو تعداد الفلسطينيين والإسرائيليين كما النكتة المشاعة عن أرنون سافير خبير الديمغرافيا الذي لم يتوقف منذ عقدين عن التحذير من خطورتها بينما السياسات العامة تفعل العكس حيث الجدل الذي احتل بعض الصحف بين سافير في مقالته «مشكلة ديمغرافية ؟ ببساطة سوف نطرد كل العرب « وهو يرد على غلعاد هيرشبرجر وسيفان هيرش هيلر وشاؤول أرئيل في مقالهم المشترك بعنوان «أثناء نومكم أصبح اليهود أقلية في أرض إسرائيل» متحدثاً أن الوضع أكثر خطورة من البيانات قائلاً: نعم في 2022 أصبح اليهود أقل من العرب.
لا داعي للتأكيد هنا على أن الأزمة السياسية ذات أساسات فكرية عنصرية. فليست هناك دولة تحسب قوميات المواطنين وتحصي أعدادهم بخوف وتحذر منها. ولكن لأنها كذلك ولا مجال لتغيير الفكر لأسباب تاريخية أيديولوجية فقد باتت تبحث عن حل. ويكمن عمق المأزق بأنها ترفض كل الحلول، لا الحل المدني الذي ينشده الفلسطينيون بدولة واحدة على كل فلسطين التاريخية للعرب واليهود ولا حل الدولتين الذي مر عابراً للحظة على هوامش ملفات أوسلو كحلم لإيجاد حل ولا حل ثنائية القومية الذي قدم أفضل تصوراته أسعد غانم ونديم روحانا بل حلولا ترقيعية ذات طابع أمني زادت من التشابك بين الشعبين ليكتشف أنها سرعت نحو الخيارات التي تشكل كابوس المستقبل. أرأيتم سياسات أثر غباء من هذا ؟
يترافق هذا الجدل كله مع نقاش في المؤسسة الإسرائيلية عن أزمة ضعف وتآكل السلطة، وهي أزمة تغذي نفس المأزق الاستراتيجي حيث يتطلب ذلك أن تأخذ إسرائيل مسؤولية أكبر في المدن الفلسطينية وهذا يعني مزيداً من التشابك ومزيداً من الالتحام والاندماج بصرف النظر عن الوسيلة العسكرية وهي التي مثلت ذروة غباء المؤسسة التي أدت إلى هذا الاستعصاء الذي يشعل كل هذا الجدل دون أن يجرؤ أحد على تقديم حلول وسط غوغاء البنغفيرية. وهذا شيء سار للفلسطينيين على المدى الاستراتيجي وإن كانت كلفته عالية في قادم الأشهر والسنوات، لكن عليهم مراقبة المشهد وهذا سيغنيهم عن خراب مؤسساتهم وعن الأحزاب والقوى المتصارعة فلا داعي لدورهم ....فالتاريخ يتكفل بالأمر.