ثمة فارق جوهري بين الخطاب الفلسطيني والإسرائيلي ولا نقصد هنا إجراء مقارنة شاملة. فبينما يتخذ الخطاب الفلسطيني طابع مطالبات لا تلقى صدى، إزاء ما ترتكبه إسرائيل، فإن الخطاب الإسرائيلي يتسم بالتقرير وفرض الوقائع.
نفهم أن الأمر يتصل بخطاب المظلومية، ويعبّر عن صرخات الضحايا، لكن هذا الخطاب يفتقر للمبادرة، بينما يتسم خطاب الجاني المجرم، بمضامين تؤكد أن الإجرام سمة جينية لدى الاحتلال الإسرائيلي.
كان بإمكان الجيش والقضاء الإسرائيلي، أن يبطل أو يخفّف من تداعيات جريمة اغتيال الشهيدة شيرين أبو عاقلة، لو أنه أجرى محاسبة بالتأكيد ستكون شكلية للجندي الذي ارتكب الجريمة لكن ذلك لم يحصل سابقاً ومن غير الممكن أن يحصل لاحقاً.
إسرائيل اعترفت بارتكاب الجريمة، واعتبرتها غير مقصودة، ما وفّر للنيابة العامة سبباً أو ذريعةً لرفض اتخاذ أي إجراء بحق الجندي أو المسؤولين عنه.
السبب في ذلك هو أن المراجع الإسرائيلية الأمنية والعسكرية والقضائية والسياسية، تعرف تماماً أن إدانة ومحاسبة الفاعل هي إدانة ومحاسبة للنظام السياسي الاحتلالي، وأن فتح الباب أمام مثل هذه المحاكمات، من شأنه أن يُبقي الباب مفتوحاً على مصراعيه لإشغال القضاء كل الوقت، ولن يكفي الوقت لمحاكمة إسرائيل على ما ارتكبته وترتكبه كسياسة يومية قوات وأجهزة الاحتلال.
كان بليغاً في معانيه وأبعاده، حدّ الوقاحة ردّ فعل رئيس الحكومة يائير لابيد، الذي ردّد ربما بالحرف ما كان أدلى به وزير الجيش بيني غانتس.
كلاهما أعلن أنه لن يقبل محاكمة جندي إسرائيلي، حتى يصفّق العالم لإسرائيل.
هذا يعني أن إسرائيل كسياسة عامة، تحمي المجرمين، وترعاهم، بأنهم مجرد براغٍ في آلة القتل العامة التي تمثلها الحكومة وأذرعها العسكرية والأمنية.
ليس هذا وحسب، بل إنهما رفضا المطالبة الأميركية، بضرورة مراجعة قواعد إطلاق النار، بهدف تخفيف حدة التصعيد الذي تشهده الأراضي المحتلة العام 1967، ذلك أن إسرائيل وحدها هي من يقرر قواعد إطلاق النار بناءً على مصلحتها ورؤيتها الخاصة.
تقدم إسرائيل من خلال هذه المعالجة الرسمية توضيحاً مهماً وخطيراً بشأن طبيعتها العنصرية الاحتلالية الأصيلة، والتي تقوم على العنجهية، والاستناد إلى القوة المفرطة، من دون أدنى اهتمام أو اعتبار لقوانين وقيم دولية، أو حتى أي مراعاة لحلفائها الذين يمدّونها بكل أسباب القوة والدعم والتفوّق.
إسرائيل لا تجامل إزاء طبيعتها ومخططاتها وسلوكها، وهي تعلن بين الحين والآخر، أنها تسعى للاعتماد على نفسها في الدفاع عن وجودها ومصالحها، ولكن وبالرغم من هذه المساعي وهذه الادعاءات المزيّفة لا تزال تواصل سياسة ابتزاز الحلفاء قبل الخصوم، وهي مستعدة لأن تذهب إلى أبعد مدى في انتهازيتها انطلاقاً من قراءتها للتحوّلات الدولية والتبدّلات الجارية في ميزان القوى الدولي.
إذا كانت إسرائيل إلى هذا الحدّ من العنجهية والساديّة، ولا تبالي حتى من أن تتّسع دائرة التعامل معها كنظام عنصري، وتتجاهل أن ولادتها قد جاءت من رحم المجتمع الدولي، والقوى الاستعمارية فإن ذلك يرتّب على الفلسطينيين التركيز على الأصول، ومنابع المشاريع الاستعمارية والرأي العام الدولي.
بخلاف المناخ العام السائد في فلسطين، الذي يميل فيه الرأي العام، إلى معالجة القضايا الداخلية، وهي كثيرة ومرهقة، وتصفيق الناس للانتقادات، التي تكون أحياناً جارحة لهذا الطرف أو ذاك، فإنني أُلفت النظر إلى ضرورة التركيز من قبل كافة القوى، على فضح إسرائيل وإظهار جرائمها أمام الرأي العام العالمي، وخصوصاً الغربي.
لا يمكن بطبيعة الحال تجاهل مدى الحاجة لترميم الأوضاع الداخلية، ولكن الحديث في ملفات الوضع الداخلي، لم يتوقف، ولم تبقَ أفكار أو مبادرات إلّا وطُرحت على نحوٍ واسع، لكن النتيجة جاءت صفراً.
من أراد الركض خلف الـ «لايكات»، والتعليقات والمشاركات بإمكانه أن يتحدث بالنقد الصريح عن الانقسام والمصالحة، وفشل المشاريع الوطنية عند الطرفين، وعن مؤتمر حركة فتح وأحوالها، ولكن ذلك وإن كان ضرورياً، ولو من باب تبرئة الذمّة الشخصية، لا يحقق شيئاً سوى المزيد من التعريض والتحريض.
خلال هذا العام وحتى الأسبوع الأخير، سقط في أراضي العام 1948، خمسة وسبعون قتيلاً، تُحال أسباب ذلك إلى العنف الداخلي في المجتمع الفلسطيني، ولكن إن كان هناك نظام سياسي في إسرائيل، يتعامل بالمساواة مع مواطنيه، فإن السؤال هو: لماذا يسقط كل هذا العدد بين الفلسطينيين، ولا يسقط أحد من اليهود الإسرائيليين؟
وخلال هذا العام وحتى الأسبوع الأخير، زاد عدد الشهداء من الفلسطينيين في الضفة والقدس على المئة، وفي غزة هناك خمسون شهيداً، وهي حصيلة كبيرة، لا بدّ أنها تلفت النظر بقوة، للبحث عن المسؤول وهو في هذه الحالة ومرة أخرى الاحتلال.
إزاء ذلك، لا فائدة تُرجى من اجترار خطاب الإصلاح في منظمة التحرير الفلسطينية، لتفعيل مؤسساتها ودورها الشامل، ولكن يكفينا الآن أن تركز المنظمة أو ما تبقّى منها، على تفعيل الجاليات الفلسطينية والعربية والصديقة في الولايات المتحدة والدول الغربية، بهدف تنوير الرأي العام فيها إزاء قضية الصراع، وهو استثمار ناجح وغير مكلف كما تشير التطوّرات في الميدان.