أعلنت مؤسسات حقوقية تعمل في متابعة شؤون الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال في مؤتمر صحفي يوم 8-9-2022 عقد في مدينة البيرة بأن الأسير الفلسطيني ناصر أبو حميد المحكوم بالسجن سبع مؤبدات و33عاما والذي يعاني من مرض السرطان يحتضر، مطالبا شقيقه ناجي أبو حميد بإطلاق سراحه ليكون بين عائلته في أيامه الأخيرة، وليدفن إلى جانب شقيقه الشهيد عبد المنعم، لا أن يحتجز كالكثير من الأسرى الشهداء في مقابر الأرقام أو الثلاجات الباردة.
الأسير ناصر أبو حميد يحتضر، رام الله تحتضر، رام الله يخنقها الموت السياسي والجغرافي والإنساني، فالإنسان هو المدينة والقرية والوطن، هو العائلة والأولاد والهوية والتاريخ وجرح المخيم، والمدينة لا تموت بحرب أو بركان أو زلزال، المدينة تموت إذا مات الإنسان، وعندما يتفشى السرطان في جسد الأسير ناصر فالسرطان ينتشر في كل الأجساد والبلاد، الاستيطان والاعتقالات والمداهمات والاعدامات والهدم والسلب والقهر والإذلال، المدن كائنات لها أسماء.
التقارير الطبية المتواترة منذ أكثر من سنة حول تدهور الحالة الصحية للأسير ناصر أبو حميد لم تحرك أي جهة في الدنيا لإنقاذ حياته، لم تهتز نبضات القلب ولا الأسلاك الشائكة التي تقيد عقولنا وإرادتنا، لقد أصبح مطلب عائلته أن يموت الأسير ناصر في بيته في مخيم الأمعري، في حضن والدته وبين اخوته وأحبائه، الحرية مقابل الموت في الفضاء، خارج الجدران والقضبان والفراغ، حرية مؤقتة حتى لا يذوب جسده وحيدا في تلك الهاوية، الموت بحرية لساعات، الموت بعينين مفتوحتين ليرى ما تبقى من وقت لهذا النهار، أن يموت على وسادته محلقا في الأحلام والذكريات.
مطلب عائلته بسيط وليس مدهشا ولا يشكل خطرا على دولة الاحتلال، أن يعود ناصر ليموت ككل البشر، أن يموت عاديا لا تلفه أسلاك طبية ولا إبر ورائحة أدوية وعفونة في كلام السجان، الفلسطيني هو الوحيد الذي يطالب أن يموت خارج سطوة الموت والرطوبة في مساحة من فضاء، الفلسطيني هو الوحيد الذي يتمنى حرية مؤقتة بين شهقات الموت وشهقات الحياة، أن يهدي موته لسلام الأطفال، أن يرتفع بموته فوق حطامه العالية، أن يكون له وداع ومشيعون وأصدقاء يمشون في جنازته إلى المقبرة، يقرأون الفاتحة والوصية ويقيمون الصلاة.
ناصر أبو حميد يحتضر، رام الله تحتضر، المجتمع العالمي يحتضر، قرارات مؤسسات حقوق الإنسان الدولية تحتضر، الأمم المتحدة تحتضر، قضاة المحكمة الجنائية الدولية يحتضرون، فمن يقتل أسيرا ويزرع الأمراض في جسده ويتعمد الاستهتار بصحته وإهماله طبيا فإنه يقتل العالم، يقتل الثقافة والديمقراطية والعدالة الكونية، يقتل القيم والمبادئ العليا للبشرية، كل مدن الدنيا تحتضر، والحضارات تموت إذا هدرت حياة الإنسان.
كم مرة ماتت مدينتنا وشوه جمالها وانتزعت روحها العريقة ودفنت في تلافيف النسيان؟ كم مرة يذهب الصوت إلى الصدى ويصطدم بالأبواب الحديدية ولا تصل الاستغاثة إلى أي مكان؟ المئات من الأسرى استشهدوا في السجون تعذيبا وقهرا ومرضا ودفنوا في المؤبدات البعيدات وفي توابيت سوداء لم تصل حتى الآن.
ناصر أبو حميد يحتضر، رام الله تحتضر، عائلة الخنساء أم يوسف أبو حميد التي اعتقل أولادها الخمسة لا يزال في قلب النكبة والاشتباك والنيران الحامية، الموت وهدم البيت عدة مرات والتشرد والملاحقة في الحياة الدنيا وفي الممات، أعطت كل عمرها وذخيرتها ولم يبق شيئا من الكلمات والرصاص، هي صورتنا أينما كنا ورحلنا، هذه العائلة هي كل العائلات من الشمال الفلسطيني إلى أقصى الجنوب إلى الشتات، فلسطيننا تحتضر، هنا على الحاجز العسكري وهناك في السجن، هنا في الشوارع والحقول وهناك في العتمة الداكنة، هنا في الحارات وفي النوم إذا داهمك الليل مسلحا بالبنادق والقنابل والمصفحات.
ناصر أبو حميد يحتضر، رام الله تحتضر، السلام المأمول العادل يحتضر، سلام الجدران والقتل اليومي والجرائم المنظمة وحملات الاعتقال الجماعية، الهواء يحتضر، القصيدة تحتضر، لا أحد يغني فالمغني يحتضر، لا أحد يرسم فالرسام يحتضر، لا أحد يزرع فالمزارع يحتضر، فكيف يعيش شعب يمارس حياته في حالة احتضار؟
ناصر أبو حميد يحتضر، رام الله تحتضر، من أوصلنا إلى وضع لا نطالب فيه سوى بلحظة وداع لجثة محطمة؟ أن نراها بعد سنوات طويلة من الغياب، أن نعانقها ونقبلها ونعتذر لها ونبكي كثيرا كثيرا عليها وعلينا، نسير خلفه في جنازته وجنازتنا، ندفنه وندفن أنفسنا في طقوس العزاء.
ناصر أبو حميد يحتضر، رام الله تحتضر، كل شيء في حالة انتظار، ننتظره حيا وننتظره ميتا وننتظره في اللا انتظار، ننتظر من يدق على الأبواب ويحرر الوطن من قبضة الاحتلال، ننتظر من يضخ في رئتيه الهواء، ننتظر أن لا يطلع الفجر على إعدام شهيد وإصابة المئات وقصف البيوت والأشجار، ننتظر صورنا في الكاميرا والإعلام، مذبوحين مذبوحين في الشوارع والساحات، شعب ينتظر إما أن يكون قتيلا أو سجينا ويصبح لا شيء في نظام القمع والاضطهاد.
ناصر أبو حميد يحتضر، رام الله تحتضر، ما أكثر المؤتمرات والندوات وقوة الشعارات، ما أكثر المسؤولين وذوي العلاقات العامة في كل الاتجاهات، ما أروع هذه البلاغة وحمل الواقع فوق أجنحة الخيال، ناصر أبو حميد يحتاج أن يتربع فوق عرش التراب لا في أقبية الظلام، ناصر يحتاج إلى من يسند جسده بعكازة من قمح وحب وغضب، ناصر يحتاج إلى حياة شريفة لا مهرجان.
ناصر أبو حميد يحتضر، رام الله تحتضر، امتحن صموده وكبرياءه في كل المواجهات والإضرابات حتى رأى المستحيل، كان قادرا ان يصنع سلطته الثورية فوق عالم السجون، الرؤية والمفردات والنشيد والوحدة والتضحية والعلم، لكنه الآن يحتضر، لم يصله سوى المحامي والطبيب السجان، لم يبلل جسده سوى العلاج الكيماوي من الوريد إلى الوريد، اختنقت الأنفاس، اختنقنا جميعا، الجلاد فوق رأسه ورؤوسنا، المسدس يحدد وقت الموت له ولنا، وما علينا سوى أن نرتب اشلائنا ككل مرة وننتظم في تقاليد الرثاء.
الأسير ناصر أبو حميد يحتضر، رام الله تحتضر، لم تتحرك الأسود الرابضة في ساحة المنارة، لم تنفع المسكنات والمهدئات والمشاريع والشعارات والاستنكارات، السرطان يتوسع ويتمدد، لم توقفه برامج التنمية المستدامة تحت حراب الاحتلال ولا رقصة الموت بين حاجز وحاجز واصطياد الأولاد، لم ينقذه صندوق النقد الدولي ولا اتفاقيات التطبيع والرفاهية، ناصر أبو حميد عاش من أجل الحرية وسيموت من أجل الحرية، هذه الحرية لا مقابل لها ولا يصنعها سوى الأحرار.