طافحٌ هذا الشهر، بالأحداث الكبرى، التي شكّلت محطّات مهمّة وخطيرة في مسيرة النضال الوطني الفلسطيني والعربي.
في الرابع من الشهر وقعت «عملية ميونيخ»، وفي الثاني عشر منه نفّذت حكومة شارون قرار «إعادة انتشار» وجودها في قطاع غزة.
في الثالث عشر، تم توقيع «اتفاقية أوسلو» في حديقة البيت الأبيض، بحضور عربي ورسمي واسع ليدشّن ذلك الحدث بداية مرحلة جديدة طويلة لا تزال تُلقي بمفاعيلها على الصراع، حاضره وآفاقه.
في السادس عشر، وقعت جريمة بشعة بحق الفلسطينيين في مخيمات صبرا وشاتيلا، لكنها تحوّلت إلى ملف جرائم الحرب الإسرائيلية، هذا الملف الطافح بالجرائم، ولا يزال مفتوحاً على المزيد طالما غاب الرادع وغابت المحاسبة والعقاب.
وفي السابع عشر، وقعت أحداث أيلول في الأردن، التي شكّلت في حينه انعطافة سلبية لمسيرة الثورة الفلسطينية المعاصرة، حين اضطرت قوات الثورة لمغادرة وخسارة ساحة الأردن، وانتقلت إلى الساحة اللبنانية.
في الثامن والعشرين من أيلول الجاري، رحل الزعيم القومي العربي الكبير جمال عبد الناصر، وكان ذلك بداية تراجع المشروع القومي العربي التحرّري، والانغماس في سياسات قُطرية، ونجم عن ذلك انقسامات عربية خطيرة، وصراعات دموية بين العرب، تقدم خدمات جليلة للاستعمار الغربي وإسرائيل.
إذا كانت تلك الأحداث المفصلية قد شكّلت محطّات مهمّة على مسار ومسيرة النضال الفلسطيني والعربي التحرّري، فإن مسيرة «أوسلو» التي تمرّ عليها هذه الأيام الذكرى التاسعة والعشرون تستحق التوقف والقراءة المعمّقة التي تتجاوز الدعوات العامة لإنهائها، وتتجاوز مبدأ الإدانة، وتبرئة الذمّة.
يدّعي البعض أن «اتفاقية أوسلو»، انتهت وفشلت، منذ سنوات، وأن إسرائيل جرفت آمال الفلسطينيين التي بنوها عند وبعد بقليل من توقيع الاتفاقية، ولم يبقَ إلّا أن يعلن الطرف الفلسطيني التنصّل من التزاماتها ونصوصها.
الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ العام 1996 وفوز نتنياهو برئاسة الحكومة، لم تعلن صراحةً ورسمياً التنصّل من «اتفاقية أوسلو»، لكنها كلها عملت على نسف ما يتعلق بحقوق أو مصالح أو حتى ما يؤشّر لإمكانية معاودة تفعيلها، بما يجدّد آمال الفلسطينيين في إقامة دولتهم.
ليس هذا وحسب بل إن إسرائيل عمدت كل الوقت إلى تقويض الأسس التي يمكن أن يبنى عليها حل يحقق «رؤية الدولتين». غير أن «أوسلو» لم تنته، والمجتمع الدولي لا يزال يتمسك بـ «رؤية الدولتين» كأساس للحل، ولكن دون أن يفعل شيئاً، أو حتى يشكّل عقبة أمام العنصرية والتوسعية الإسرائيلية.
و«أوسلو» لم تنته، طالما أن السلطة الوطنية لا تزال قائمة رغم كل شيء، وقد أصبحت عنواناً وطنياً، يطغى دورها الداخلي والخارجي على دور منظمة التحرير الفلسطينية.
و«أوسلو» لم تنتهِ طالما أن منظمة التحرير لا تزال تعترف بإسرائيل، والسلطة محكومة لـ «اتفاقية باريس» الاقتصادية، وتواصل سياسة «التنسيق الأمني» مع الاحتلال.
و«أوسلو» لم تنتهِ طالما أن السياسة الرسمية الفلسطينية تستند إلى تلك الاتفاقية في خطابها السياسي الداخلي والخارجي، ومطالباتها للمجتمع الدولي بالتدخل لفرض «رؤية الدولتين».
ويمكن القول، أيضاً، إن «أوسلو» لم تنتهِ طالما أن خطاب إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، وإعادة بناء النظام السياسي، والشراكة من خلال الانتخابات، وفي إطار وتحت سقف السلطة بما هي عليه.
الخطاب السياسي الذي تتبنّاه عديد الفصائل الوازنة، يطالب منظمة التحرير وحركة فتح، بإعلان التنصّل من «اتفاقية أوسلو» طالما أنها فشلت وطالما أن إسرائيل تتنصّل منها.
ترجمة هذا الخطاب يستدعي من المنظمة إعلان سحبها الاعتراف بإسرائيل والإعلان عن حل السلطة الوطنية، وإنهاء خدماتها، بما يستدعي ذلك إجراء تغييرات واسعة ومربكة على المبنى التنظيمي لمؤسسات العمل الوطني بما في ذلك السلطة والمنظمة وحركة فتح.
إنهاء «أوسلو» من الطرف الفلسطيني يعني انقلاباً جذرياً وواسعاً على كل الأوضاع الفلسطينية السياسية والاجتماعية والكفاحية، والانتقال إلى مرحلة الصراع الشامل والمكشوف.
والسؤال: هل يمكن أن يقع ذلك، دون خسائر كبرى ودون أن يكون ذلك، نتيجة توافق وطني شامل، يتحمّل الكل المسؤولية عن تبعاته؟
هل يمكن أن يقع ذلك، في ضوء وضع عربي وإقليمي أقلّ ما يمكن أن يُقال إنه متشاحن ومفكّك، وبعضه يركض خلف أوهام العلاقة مع إسرائيل، ويتخلّى عن مسؤولياته ودوره إزاء القضية والشعب الفلسطيني؟
وهل يمكن أن يحصل ذلك، ويحقق للفلسطينيين وقضيتهم أوضاعاً أفضل في ظل وضعٍ دولي متحرك، ومتغير، والفاعلون فيه، اليوم، يقفون بـ «الباع والذراع» خلف إسرائيل، التي تحرز يوماً بعد الآخر المزيد من الحضور والفاعلية، والمزيد من التشبيك على المستوى الإقليمي والدولي؟
دعونا نتطلّع إلى الممكن الذي ينهض بالوضع الفلسطيني على نحوٍ متدرّج في اتجاه تحسين أداء المقاومة بكافة أشكالها بما في ذلك المقاومة الشعبية التي لم تحظَ بالاهتمام والدعم اللازمين والكافيين حتى الآن.
الصراع طويل ومديد، هذه هي الحقيقة، التي ينبغي أن تُبنى عليها المبادرات للخروج من مأزق وأزمة النظام السياسي الفلسطيني، والأسوأ أن يستمر الوضع الفلسطيني على ما هو عليه.
ربّما على الفلسطينيين أن يقبلوا فكرة الاستمرار في مواجهة قوية لسياسة الإرهاب والحرب والعنصرية من خلال تقوية «خطاب السلام»، والالتزام بالقرارات والقوانين الدولية دون أن يمنع ذلك استخدام ما تيسّر من وسائل المواجهة الأخرى لعدوان إسرائيلي لا يتوقّف.
غير أن مواصلة «خطاب السلام» ينبغي أن يتأسّس على قناعة وعمل باتجاه الصراع المفتوح على كل الحقوق وكل الأرض، طالما أن إسرائيل هي التي تغلق كل الطرق نحو السلام.
هذا بدوره يستدعي حواراً فلسطينياً يُعيد بناء الثقة، وتبادل وتكامل الأدوار بين القوى السياسية، وتفعيل كل أشكال وساحات مواجهة العنصرية والإرهاب الإسرائيلي.