يقول تشارلز ديكنز في روايته "اوليفر تويست" على لسان أحد شخصياتها حين تعرض للمساءلة عن فعل يجهله ارتكبته زوجته، وأخبروه أن القانون يجعله مسؤولاً عن أفعالها، أجابهم حينها بأن القانون حمار.. أحمق، ويقال أن صاحب المقولة هو وليام شكسبير وربما يكون صاحبها الحقيقي الكاتب جورج تشابمان، على أي حال المقولة في نسختها الأصلية هي أن القانون جحش وليس كما تم ترجمتها بأن القانون حمار، على اعتبار أن الحمار الذي يتسم بالغباء والحماقة في الثقافة الشرقية يوصف بالصبر والجلد عند الغرب لذلك اتخذه الحزب الديمقراطي الأمريكي شعاراً له، فيما الجحش يجمع بين الثقافتين الشرقية والغربية حول حماقته، والتوصيف لم يذهب إلي القانون ذاته بل لأولئك الذين ينحرفون بالقانون بعيداً عن مقصده، والحالة لدينا هي أكثر هزلية مما ذهب إليه ديكنز في روايته، حيث تسعى الحكومة الفلسطينية للذهاب بالجحش ذاته "قانون التقاعد المبكر" إلى أروقة المحاكم كي يحكم القضاة بما ينطق به الجحش.
حدد قانون الخدمة المدنية لسنة ١٩٩٨ في البند الثالث من المادة الثالثة صلاحية مجلس الوزراء في اشرافه على شؤون الخدمة المدنية من خلال تكليفه بوضع أية مشروعات لخدمة مصلحة الموظفين وتطويرها بما يكفل توفير الاطمئنان والاستقرار المادي والاجتماعي والنفسي لهم، وهي بالقانون الجحش "قانون التقاعد المبكر" الذي تعكف على وضعه في صياغته النهائية ليصدر قانوناً بمرسوم من السيد الرئيس تكون قد أطلقت رصاصة الرحمة على الأمن الوظيفي للموظف، ويصبح قانون التقاعد المبكر بمثابة سيف "ديموقليس" المسلط على رقاب الموظفين ويلجأ إليه كل من يمتطي الجحش لإحالة أي موظف لا تتوفر لديه مهارات التزلف والتملق والنفاق ومسح الجوخ، باعتبارها من متطلبات الوظيفة الرئيسية، إلى التقاعد المبكر على حين غرة.
لكن لماذا تعكف الحكومة على وضع قانون التقاعد المبكر؟، وهل هو بهذا القدر من القبح الذي دفع الحكومة لتجميل وجهه بلفظ المبكر عوضاً عن الاجباري؟، وزارة المالية تسعى لخفض فاتورة الرواتب الشهرية من ١٠٠٪ من صافي الدخل إلى ٧٠٪ منه قبل نهاية العام الحالي، وهذا يعني أنها ستلجأ لإحالة أكثر من ٣٠ ألف موظف للتقاعد قبل نهاية العام، وطبقاً لوزير المالية فإن التقاعد سيشمل كل موظف ليس له عمل أو ليس على رأس عمله سواء كان بالضفة أو قطاع غزة، أما المساواة بين شقي الوطن فيما يتعلق بتطبيق القانون الجحش فما هو إلا ذر للرماد في العيون حيث المقصود بالقانون موظفو قطاع غزة التي تصنفهم رام الله بأنهم ليسوا على رأس عملهم، على الرغم من أن ذلك جاء انصياعاً منهم للقرارات الحكومية الصادرة إليهم من رام الله بالاستنكاف عن العمل بعد الانقسام، والحكومة اليوم تعاقبهم على التزامهم بتعليماتها، نية الحكومة وضع قانون التقاعد المبكر ورفعه للرئيس للمصادقة عليه من خلال مرسوم بقانون في ظل غياب المجلس التشريعي ورغم ما فيه من عوار من ألفه إلى يائه يفصح عن تخبط الحكومة أو أنها في موقع المفعول به، ومن المفيد التوقف عند التالي:
أولاً: أن مهمة الحكومة تكمن في خلق فرص عمل والوظيفة الحكومية أحد أدواتها، وهي المنوط بها معالجة البطالة المستفحلة، فهل يمكن للحكومة أن تتكرم علينا وتشرح لنا إنجازاتها في خفض مؤشر البطالة؟
ثانياً: أن ارتفاع فاتورة الرواتب الشهرية لم يكن بفعل الموظفين المغلوب على أمرهم بل بتكدس أصحاب الدرجات العليا من الخاصة وما تتطلبه تلك المراكز من بدلات ونفقات نجاري بها الدول الغنية، وبطبيعة الحال قانون التقاعد المبكر لن يصل لعتبة مكاتبهم بل يلاحق بسيفه صغار الموظفين.
ثالثاً: لسنا بهذا القدر من الغباء كي تقول لنا الحكومة بأن القانون يساوي بين شقي الوطن، فالجميع يعرف أن الغالبية العظمى ممن سيشملهم القانون هم من موظفي قطاع غزة، والسؤال ما الذي سيتبقى للسلطة الفلسطينية في غزة بعد أن تستكمل ما بدأته منذ سنوات بإحالة موظفيها في غزة إلى التقاعد الاجباري؟، وليت الحكومة تفصح لنا عن عدد من تم تعيينهم من أبناء قطاع غزة في مؤسساتها منذ الانقسام وحتى تاريخه باستثناء تعيين أبناء المسؤولين فيها مقابل صمتهم على الظلم البين.
رابعاً: التقاعد الاجباري لن يخفض فاتورة الراتب بالشكل الذي تتحدث عنه وزارة المالية، سيما وأن السلطة لا تورد ما عليها من التزامات لصندوق التأمين والمعاشات، وكان الأجدر بالحكومة أن تبحث عن وسائل أخرى لتقليص النفقات خاصة تلك التي ينعم بها كبار القوم.
خامساً: آن للحكومة في رام الله من باب الشفافية الضيقة أن تفصح عن إيراداتها ومصروفاتها المتعلقة بقطاع غزة بشكل تفصيلي، والشيء ذاته مطلوب من حكومة غزة فمن حق المواطن أن يطلع على ذلك ليعرف حقيقة ما يقال وحقيقة الحال التي وصلنا إليها.
قد يتغلغل الظلم داخل المجتمع بفعل غياب القانون وافتقار المجتمع للعدالة لكن الأسوأ يكون حين نشرع قانوناً نحمي به الظلم، وحين يصبح الظلم قانوناً يصبح التمرد واجباً.