من غير المنصف أو المنطقي، أن يحاكم خطاب الرئيس محمود عباس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، انطلاقاً من أنه ينبغي أن يتضمن جديداً، يلبي تطلعات المنتظرين، والمنتظرون هم فقط الفلسطينيون.
حتى الإسرائيليون، الذين سيتأثرون بخطاب الرئيس أمام العالم، ما كانوا ينتظرون أن يفجر الرئيس قنابل تضع المستمعين أمام حالة ذهول وصدمة.
الأساس أن المواقف المهمة، التي تنطوي على تحوّلات سياسية، لا تصدر خلال تجمعات دولية، قبل أن تصدر أو يتم التحضير لها داخل المؤسسة الوطنية، وهذا أمر لم يحصل حتى يتم اتهام الرئيس وخطابه بالتقليدي، أو بأنه يخلو من أي أهمية.
الخطاب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، مهم وضروري ليس فقط لتأكيد حضور الشعب الفلسطيني وقضيته أمام العالم، وعلى طاولة الأحداث الكبرى، وإنما هو مهم، أيضاً، لأنه يخاطب الرأي العام العالمي الذي لا تتوقف صناعته على الاجتماعات الرسمية، وأطر المنظمة الدولية.
لا شكّ في أن المبتدئين في العمل السياسي، يدركون على نحو قاطع أن الظروف الدولية الراهنة، حيث تندلع حرب عالمية مفصلية لا تسمح بأن تحظى القضية الفلسطينية بأولوية اهتمام المجتمع الدولي.
العالم منشغل بأحداث تاريخية كبرى، تهدد في هذه المرحلة السلم والأمن الدوليين، وتنطوي مجرياتها ومآلاتها على تغييرات كبرى على صعيد النظام الدولي، بكل مكوّناته بما في ذلك الأمم المتحدة، وتوازن القوى الدولية.
ثمة الحرب العالمية التي تدور رحاها في أوكرانيا، ويجنّد الطرفان روسيا وحلفاؤها، و"الناتو" وحلفاؤه، كل ما يقع تحت أيديهم من إمكانيات لكسب الحرب، وقد تتدهور الأوضاع نحو استخدام أسلحة نووية، والعالم يواجه أزمة غذاء وتصحُّر، وأزمة طاقةٍ غير مسبوقة، فضلاً عن تطورات خطيرة محتملة، في حال فشل المفاوضات بشأن ملف إيران النووي، وأيضاً بسبب ملف الصين وتايوان.
القضية الفلسطينية هي بحق مفتاح السلام والحرب في منطقة الشرق الأوسط والعالم، ولكنها الآن ليست في هذا الموقع، لذلك ما كان من المنطقي أن يتوقع المنتظرون من الرئيس أن يلقي قنابل صوتية سيضيع صداها في الهواء.
خطاب الرئيس كان شاملاً، إلّا من بعض الملاحظات، وكان جريئاً ومتحدّياً، وقد وضع النقاط على حروفٍ كثيرة، وقد خلا من المراهنات المعهودة، فضلاً عن أنه تجاوز كل ما قيل من ضغوط أميركية وإسرائيلية.
الخطاب لم يكن موجّهاً للداخل الفلسطيني، ولا حاجة أو ضرورة لأن يتضمن معالجات أو مواقف تتصل بالأوضاع الفلسطينية لأن الأمر منوط بالفلسطينيين أنفسهم.
قدّم الرئيس المشهد الصراعي، انطلاقاً من حقائق الأرض التي تشهد على نحو لا يقبل التأويل، على أن إسرائيل دولة خارجة عن القانون. ليس من طبيعتها البحث عن السلام بل إنها ترفضه وتقاومه بكل قوة.
إسرائيل دولة "أبرتهايد"، تستهزئ بالقانون الدولي، وبقرارات الجماعة الدولية التي وقف أمامها الرئيس.
ما قاله في ألمانيا وأحدث ضجّة مفتعلة لدى الألمان والإسرائيليين، عاد وكرّره أمام المجتمع الدولي، فلقد ارتكبت إسرائيل عشرات المجازر، واعترفت ببعضها منذ ما قبل العام 1948، وإلى اليوم.
حديث الرئيس عن المجازر قبل العام 1948، وحديثه عن مسؤولية بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة في تبنّي وتنفيذ وحماية المشروع الصهيوني منذ الحرب العالمية الأولى، وحديثه، أيضاً، عن قراري مجلس الأمن (181) و(194)، هو تذكير بجذور الأزمة، وتذكير بالأساس القانوني الدولي الذي ضربته إسرائيل مبكراً بعرض الحائط.
هي إشارات إلى أصل الصراع، وتذهب إلى أن رفض إسرائيل للسلام والاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني على الأراضي المحتلة العام 1967، إنما يدفع بالصراع على كل الأرض والحقوق التاريخية.
كان من الضروري أن يذكّر الرئيس المئة وخمسين مسؤولاً دولياً يجتمعون تحت قبة الأمم المتحدة، بأنهم يتعرضون للتهميش وقلّة الاحترام من قبل الولايات المتحدة التي تحمي إسرائيل، وتحول دون مساءلتها ومحاسبتها بدليل أن الأمم المتحدة أصدرت أكثر من سبعمائة قرار عن الجمعية العامة، وأكثر من ستين قراراً عن مجلس الأمن، من دون أن تنجح هذه المؤسسات في تنفيذ قرارٍ واحد. هذه إشارة مباشرة لطبيعة النظام الدولي أُحادي القطب الذي يجعل المؤسسة الدولية رهينة بيد الولايات المتحدة وحلفائها.
يعرف الرئيس حين يخاطب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بضرورة وضع خطة أممية، لحماية الشعب الفلسطيني، وأنه مجرد موظف دولي، وفي الأغلب لدى الولايات المتحدة. لكنه أراد أن يستكمل مشهد العجز الذي يصيب الأمم المتحدة بكل مؤسساتها.
في الخلاصة، يدرك كل فلسطيني أن غصن الزيتون الذي تحدّث عنه الرئيس الراحل ياسر عرفات، من على منبر الأمم المتحدة العام 1974، قد سقط، وبقيت البندقية مُشرعَة.
نفهم إصرار الرئيس على تكرار التزامه بأوضح العبارات إزاء الرغبة في السلام، ولكن السؤال هو: إذا كانت إسرائيل قد أسقطت غصن الزيتون، وأنها، أيضاً، أسقطت خيار السلام، فما الذي تبقّى من خيارات سوى المقاومة بكافة أشكالها، ما تشرّعه الأمم المتحدة كحق ثابت للشعوب المستعمرة؟
كان لا بدّ لاستكمال المشهد الصراعي، أن يمرّ الرئيس على حصار غزّة، وعلى العدوانات التي شنتها إسرائيل على القطاع، وارتكبت خلالها عشرات المجازر بحق المدنيين الفلسطينيين.
أخيراً، فإن الحضور في المنبر الدولي الأهمّ شيء أساسي، ولكن من دون مراهنات، بإمكانية الحصول على العدالة، إنما الأهمّ هو العمل على تغيير الرأي العام الدولي بما في ذلك وأساساً الولايات المتحدة وأوروبا الغربية. ويبقى الأهمّ، أيضاً، مدى مناعة الجبهة الداخلية، ومدى قوّتها.