يبدو أن إسرائيل، بعد الأسبوع الأول من تشرين الثاني القادم، ستكون أمام واحد من سيناريوهات ثلاثة، كما قال وزير الجيش بيني غانتس أكثر من مرة، فإما أن تقوم بتشكيل حكومة يمين متطرف مع نتنياهو وسموتريتش وبن غفير، أو حكومة تصريف أعمال برئاسة لابيد تدير البلاد خلال متابعة سلسلة الانتخابات غير الحاسمة التي لا تنتهي، أو حكومة وحدة برئاسة غانتس. فإسرائيل ستواجه عبر الانتخابات خيار الاختيار الصعب من بين الاحتمالات الثلاثة سالفة الذكر. طبعاً غانتس يروّج انتخابياً لنفسه بتقديم حكومة يترأسها على أنها حكومة الوحدة، في حين هو يحاول أن يصبغ عليها في حال نجح بتشكيلها الصبغة الأمنية، ذلك أنه يمكن للابيد ونتنياهو أن يشكلا معاً حكومة الوحدة، بل إن حكومة وحدة تجمع قاعدة برلمانية كاسحة لا تكون إلا بوحدة أكبر حزبين عادة.
ثوابت الحملة الانتخابية لبيني غانتس كانت واضحة منذ وقت، وهو بدأها بتقديرنا قبل غيره، فهو أولاً قام بإجراء وحدة بين حزبه «أزرق أبيض» وحزب «أمل جديد» بزعامة اليميني الذي سبق له وانشق عن ليكود بنيامين نتنياهو، جدعون ساعر، بما يضفي على التشكيلة التي يخوض بها الانتخابات المقبلة صبغة يمينية، أو أنه لا يبقي عليها كحزب جنرالات فقط، رغم انضمام رئيس هيئة الأركان السابق غادي آيزنكوت لمعسكر الدولة، هذا الجنرال السابق الذي قال، أول من أمس: إن معسكر الدولة يبني إستراتيجيته على إخلاء ما سماها المستوطنات غير القانونية، حيث إنه قد يقصد بها العشوائية، وبما يوحي أن معسكر الدولة يفكر في حلّ ما مع الجانب الفلسطيني، وهذا يعتبر دعاية انتخابية، لأنه حتى لو دخلت إسرائيل في حالة تفاوض مع الجانب الفلسطيني، فإن شكل الحل الذي ستطرحه لا يبدو أنه سيكون مشجعاً للجانب الفلسطيني، وبالتالي للتوصل للحل، وفق المعطيات الإسرائيلية الحالية.
غانتس الذي انفرد بلقاء الرئيس عباس، ظل حريصاً على إبقاء اللقاءات ضمن المسار الأمني، وهو لم يكن مخولاً من الحكومة أصلاً بالخوض في الجانب السياسي، لكن يبدو أن ما قال به آيزنكوت - وهو يمثل موقفاً جديداً من قبل بعض القادة الإسرائيليين - قد جاء إثر التحول المفاجئ الذي أعلنه يائير لابيد في الأمم المتحدة، بقبوله حل الدولتين. أما لماذا قام لابيد بإعلانه ذاك، وهو الذي ظل يصر على أن لقاء الرئيس الفلسطيني ليس من ضمن جدول أعماله، (وقد عدّل موقفه بعد يومين بقوله للصحافة الإسرائيلية: إن حل الدولتين لن يكون غداً، وإنه ربما يتحقق في عهد أحفاده أو أبنائهم، ليتقاطع بذلك مع رؤية بايدن لحل الدولتين، أي مع وقف التنفيذ)، فإن هذا هو ما يستدعي التفكير به للوقوف عند أسبابه الحقيقية، وأول ما يمكن أن يقفز إلى العقل، هو أن لابيد حاول أن يتجنب مساءلة المجتمع الدولي، أي أن إعلانه ذاك موجه للمجتمع الدولي، وليس للداخل الإسرائيلي ولا حتى للجانب الفلسطيني، خاصة أنه يعرف أن الرئيس عباس سيشن هجوم السلام على إسرائيل في اليوم التالي لإلقائه خطابه أمام الجمعية العامة، أي أن لابيد حاول أن يظهر كرجل دولة مسؤول ومعتدل، ولهذا سارع الرئيس الأميركي للتوافق مع كل كلمة قالها لابيد، كما قال معقباً على خطاب رئيس الحكومة الإسرائيلية فور سماعها.
كذلك يبدو أن لابيد بعد خروج بينيت، وبعد أن صار رئيس حكومة، قد عرف حجم اليمين، وأنه بات يراهن على أصوات اليسار والعرب بالطبع، التي في حال صوتت بقوة فإنها إن لم تنجح في الحصول على الأغلبية، ستحرم منها خصمه اليميني، وتبقيه ولو بصفة تصريف أعمال رئيساً للحكومة، وطبعاً هو يعرف أن مفتاح اليسار والعرب هو التقدم نحو الملف الفلسطيني.
كذلك يبدو أن إسرائيل بدأت تأخذ بعين الاعتبار المتغيرات الإقليمية والدولية، وهي تستعد لاستحقاقات النزاع الدولي، حيث إن العالم العربي رغم كل ما هو فيه من تشتت وتنازع، إلا أن انشغاله خلال عشر سنوات تلت العام 2011، أي ما سمّي الربيع العربي، قد انتهت، وها هي قمة الجزائر العربية على الأبواب، حيث تخطط الجزائر والجامعة العربية للمّ الشمل العربي، بإعادة سورية لمقعدها ومكانتها، كذلك هناك محاولة جزائرية لإنهاء الانقسام الفلسطيني، والأهم هو أن الضفة الغربية قد بدأت تقارع الاحتلال جدياً.
وتبقى الحسابات الداخلية الإسرائيلية الخاصة بالانتخابات، فمن المؤكد أن كلا المعسكرين لن يفوز بأغلبية مريحة، وكل ما يمني النفس به كلاهما هو أن ينجح في نيل توصية 61 عضو كنيست، أي الأغلبية البسيطة، التي حتى في حال تحققها لن تضمن الاستقرار للحكومة المقبلة، كما حدث مع الحكومة الحالية بأغلبية 62 مقعداً، وبعد أن نجحت الحكومة البديلة في «كسر التابو»، المتمثل في عدم مشاركة العرب في أي حكومة إسرائيلية من قبل، فإن الغريب هو أن الحكومة البديلة ضمت حزباً عربياً، رغم وجود 3 أحزاب يمينية فيها، بل إن رئيسها كان يمينياً متطرفاً، لذا فإن اليمين لن ينجح في التحريض على حكومة تتشكل ولو بأقلية ولكن مع شبكة أمان عربية، يمكن لأحمد الطيبي وأيمن عودة أن يوصيا بتكليف رئيسها، وهو بالطبع إما لابيد أو غانتس.
غانتس أصر على رفض المشاركة في حكومة يترأسها نتنياهو، وهو بذلك لم يرفض الشراكة لا مع أحزاب اليمين بمن فيهم الليكود، ولا حتى مع الأحزاب الدينية، لكن طبعاً، الفيتو على الأحزاب الدينية يضعه أفيغدور ليبرمان، ويبدو أن غانتس قد تعلم من نفتالي بينيت، حيث لم يتورط برفض الكثير من الأحزاب، وأبقى الباب مشرعاً، لذا نجح في أن يكون رئيساً للحكومة بحزب لم يتجاوز تمثيله أكثر من ستة مقاعد، أي أن غانتس يمكنه أن يترأس حكومة تضم حتى الليكود ورئيسه نتنياهو، لكن لن يشارك في حكومة يترأسها نتنياهو، وربما كان السبب هو «المقلب» الذي نصبه له نتنياهو من قبل حين شكلا معاً حكومة، لم يبقِ عليها نتنياهو لتصل إلى استحقاق انتقال رئاستها لغانتس، عام «كورونا»، وبتشجيع من دونالد ترامب في ذلك الوقت.
أما الرئيس عباس فقد تلقى إعلان لابيد وردّ السهم له فوراً، بمطالبته بالدخول في مفاوضات فوراً، إن كان صادقاً أو جاداً في قناعته بحل الدولتين، ويبدو أن حجر لابيد قد حرك ساكناً، فنتنياهو ظهر كسياسي عدمي، مهمته دائماً أن يرفض وأن يخرّب، فسارع على الفور إلى رفض خطاب لابيد، فيما طالبت حركة «السلام الآن» لابيد بأن يسارع فوراً للقاء عباس، وسرعان ما خرجت تظاهرات في إسرائيل تطالب بعدم عودة نتنياهو للحكم مجدداً، فيما تواصلت على هامش اجتماع الجمعية العامة محاولات عربية - أوروبية لكسر حالة الجمود الحالية، والكل يعرف أن مرجل الشرق الأوسط يغلي، وأن فتيل إشعاله في القدس والضفة الغربية قد اقترب جداً من الشرارة التي ستشعله، فيما كبار العالم يشحذون أسلحتهم بما فيها النووية في غير مكان، ما يعني أن من لا يسارع على الفور لإغلاق باب بيته عليه، وإخراج العفاريت منه، فإن غده سيكون مراً وكارثياً.