أتمنى القراءة المتأنية لطول المقال لأننا في عصر السرعة ولا يتحمل القراء طول المقال وتلك أيضا خدعة ترسخت من وسائل الاعلام وخاصة التواصل الاجتماعي فالقارئ يفضل قراءة ألف مشاركة أو تغريد مخادعة على أي مقال غير مخادع يقدم له الحقائق وهذا جزء مما يشكل ثقافتنا المخدوعة الآن.
نحن نعيش في عصر بديع حقا ورغم تطور العلوم والأفكار والصناعات والرقميات الهائلة وسهولة الحركة وامتلاك كل وسائل الراحة الجسدية لكنه يبعدنا عن أي معاناة فكرية التي تنمي العقل وكل أنواع الرفاهية غير المسبوقة إلا أننا للأسف نعيش عصر سياسي وإعلامي تآمري مخادع غير نظيف.
مركزة رأس المال تحكم السياسة والحرب طبعا لأن الحرب هو تكثيف للسياسة كما يعلم الجميع ويتم تزوير الإعلام بكل أشكاله وهذا الكم المهول من وسائل الاعلام الذي يكلف ترليونات الدولارات فالأعلام بمجمله فئوي طائفي شوفيني عنصري استعماري كاذب ومخادع حتى في النشرة الجوية ومغمس بأهداف لها أجندات غير ما نرى ونقرأ ونسمع.
ولأن الاعلام يشكل الثقافة بكل مصادره من كتاب أو مقال يقرأ وقنوات فضائية ومواقع تواصل اجتماعية وشبكة عنكبوتية معلوماتية فغالبيتنا نبني ثقافتنا على أسس خادعة غير حقيقية ولذلك يسهل خداعنا وتزوير الحقائق التي نحسبها صحيحة، حتى تكذب أعيننا ما نرى ونشاهد ونقرأ، فالحدث قد يكون أمامنا بأمتار وتجد وسائل الاعلام تفشخ رأسك بتحليللتها المتعددة وذات الهدف الواحد وهو التضليل وضياع الحقيقة وهلم جرا...
هذا العصر المخادع الذي نحياه لا يمكن إنقاذنا منه للوصول الحقيقة إلا بالتفكيك والتفكيك هنا أعلى درجة من التحليل فالعين تخدع لكن العقل آخر من يخدع.
نحتاج علما جديدا يناسب الواقع لفمهمه وهذا يحتاج مفككون وليس محللون سياسيون مخادعون فئويون يخدمون فكر صاحب المال الذي قلنا هو مال كل وسائل الإعلام ونحتاج مفككون أعلى مرتبة من الخبير الاستراتيجي الذي يجمع المعلومات ويطرح الأجندات وتقدير الموقف فكل من يخرج على هذا الاعلام يخدع الجمهور ويزيف وعيه ليس لموقف اتخذه في جانب هذا أو ذاك بل لأنه يتلاعب بالكلمات ليخدر الجمهور أو يسحبه تجاه فكرة معينة وهو في الواقع لا يمتلك يقينا عاليا على الأقل وليس مطلقا فكل من ليس عالما فإنه ناقلا والناقل لا يملك يقينا في أعلى درجاته وهنا ليس اليقين رياضيا كما يفهم من كلمة يقين أي واحد زائد واحد يساوي إثنين بل اليقين العالي لمن فكك ووضع نظرية أثبت صحتها إلى حد كبير لان العلوم السياسية والانسانية ومنها الاعلام لا يخضع للحقيقة ويتم تزويره وتكذيب حتى العيون الأقرب للحدث.
المفَكك هو الذي رصد الظاهرة واختبرها ووضع لها نظرية أي العالم حقا بالحقائق ولذلك قلنا إن المٌفَكِك هو أعلى درجة من المحلل والخبير الاستراتيجي الذي يقبض الأجر أو الثمن وهو الذي جمع ما قيل وأنتج رأيا قد بني على غير علم.. أهمية هذه المقدمة هي حاجتنا للحقيقة في عصر الخداع التي تحتاج المفككون أصحاب النظريات العلمية لنبني على علمهم تفكيرنا ونحلل الحدث والظاهرة لكي لا نخدع.
الآن نأتي للعنوان:
تبلور منذ ثلاثة عقود تقريبا نموذجا مختلفا يقطع العلاقة مع النموذج الذي ساد القرون السياسية السابقة وهو تعاطي السياسة مع أي قضية كقضية كاملة، والنموذج الجديد قسم كل قضية إلى أجزاء أو ملفات منفصلة تعالج كل منها على انفراد.
تنمذج هذا التفكيك في حقيقة أن السياسة أصبحت ليست رزمة ثابتة الموقف في كل ملفاتها، بل تعلن هذه النمذجة عن فن الممكن المجزأ أو المنفصل لأي قضية أو إشكالية تريد معالجتها سياسيا، أي الأنتقال من سوق الجملة السياسي إلى سوق القطاعي وهذا نموذج يبتعد عما كانت عليه السياسة في عصور سابقة في سياق تعريفها نثلا ل "فن الممكن" وأصبح فن الممكن ينطبق على التجزيئ أيضا.
بات في كثير من المواقف أن تتعاطى الدول والسياسيين بسوق القطعة أو الملف الواحد في قضية كبرى ما، وليس صفقة في كل القضية وملفاتها، وبما يوحي الابتعاد عن حتميات الأيديولوجيات وانتصارات الحروب بالضربة القاضية، فعالم السياسة أصبح ينحو نحو سوق التجزئة بمعنى تعال نتفاوض على جزئية معينة يمكن حلها وترك باقي ملفات قضية مطروحة منذ زمن كرزمة ولم يتم حلها ...
أي بكلام آخر ليس هناك مصطلح حل شامل لصراع أو قضية ما، ويمكن تسمية هذا النهج السياسي الذي يسود ثقافة العالم السياسي في العقود القليلة الماضية ب "التفكيكية السياسية" وحتى يمكن أيضا تطبيقها في الحروب كما نرى وليس بضربة حربية أو صفقة سياسية تنتهي كل عناصر الصراع كما كان في الصراعت السياسية قديما وكما كان نوعية الانتصار في الحربين العالميتين الأولى والثانية ..
لا أدري مَن مِن علماء السياسة نظر لهذا النهج أو من وضع نظريات له ليتبلور الآن كنموذج أو ظاهرة لها ملامح .. لم أعثر على أبحاث أو نظريات في مجال ما أسميته "التفكيكية السياسية "
السؤال الذي افكر فيه الآن ، هل ظاهرة "التفكيكية السياسية" هي نتاج العولمة والتسليع commidation ومنها نتج التجزيئ بما أسموه تخصصات في في النظام الرأسمالي كما في الطب مثلا وكذلك الخدمات الأخرى بنفس الشاكلة، فتقسيم جسم الانسان ليشمل هذا التقسيم التأمين الصحي وتباين أسعاره كما نجد كثيرا من الشركات لا تمنح موظفها مثلا تأمين على طب الأسنان لإرتفاع التكاليف وكذلك تجد كل قطعة في جسم الإنسان تذهب لمستشفى معين فالرحم صار قطعة والعين صارت قطعة والجراحات قطع أي تذهب كل قطعة من الإنسان لمكان مختلف وليس لمكان واحد ووحدة جسم إنسان واحد أو كما أسموها خدعة تخصثات والهدف من ذلك سوق ومال وليس خدمة صحية أفضل أي أصبح الجسم كقطع صابون أو عبوات زيت لكل قطعة مكان وثمن أي سلع وحتى المريض بطل إسمه مريض أو صابر patient وصار إسمه زبون أو مستهلك consumer أو client .
أم هي نهج بوتين وميديديف في العقدين الماضيين ونماذج استعادة تجميع الإتحاد السوفييتي قطعة قطعة والجارية الآن في حرب أوكرانيا وتقطيع الملفات والأقالبم الاوكرانية والتي بدأت بجورجيا والقرم والآن دونباسك وأخواتها وستتوالى أو في محطات أخرى لاتفيا وأستونيا وليتوانيا وهلم جرا... أي التجزيئ.
نظرية تفكيك القضايا او الظواهر والحديث عنها أو التفكيكية السياسية التي أقصدها لا تطابق كثيرا التفكيكية الثقافية أو الأدبية وأسلوبها وجوهرها التي نظر لها "جاك دريدا" فمصدر التفكيك عند دريدا هو فك الارتباط بين اللغة وكل ما يقع خارجها، لكن ما أتحدث عنه هي ظاهرة تعالج واقع يظهر بوضوح أمامنا به متضررون وقتلى وهدم ودمار وليس كما التفكيك الأدبي الذي يتحدث عن أسلوب فهم العلاقة بين النص والمعنى ويحمل أحيانا المعنى المعاكس أو المضاد حين تفككه لأن أسلوب دريدا يستند على ربط قراءات النص بأذن لما يناقض المعنى المقصود أو الوحدة الهيكلية لنص معين، لكن التفكيك في السياسة أوسع مجالا من التحليل السياسي بالطبع ونحتاج من الخبراء والباحثين في السياسة وضع اطار نظري لهذه الظاهرة التي بدأت تتعمم أو تعم بشكل أدق ...
هل تفكيك ملف الضفة عن ملف غزة للأنفصال النهائي هو ضمن هذا النهج الذي يجتاح العالم اليوم؟
وهل استمرار تجزيئ ملفات وأقاليم الدول التي تشهد صراعات داخلية هو تتويج لهذا النموذج التفكيكي؟
لنجد مثلا هناك جماعة تستولي على اقليم او مدينة أو مساحة من الأرض في دولة واحدة تفرض عليها احكام تلك الجماعة سياسية كانت أو عرقية أو دينية.
أمامنا نماذج عديدة تكاد تكون صارخة في دول عربية أيضا مثل ليبيا سوريا اليمن لبنان وحتى العراق الذي يحاول استرجاع وحدته وأخيرا الأسوأ في الإنقسام في فلسطين لوجود أصلا احتلال اسرائيلي للوطن كله، وعدم نجاح أي وساطة لإنهاء الانقسام واعادة الوحدة ...
التفكيكية السياسية لملفات في قضية واحدة في عصرنا لا تشبه تمرد زمان أو انفصال دول عن بعضها أو تحرير أقاليم عرقية من مركزة الدولة ، لكنها تشبه تفكيك الدول والاتحادات الكبرى كالاتحاد السوفيبتي لكنها تختلف عنه في النماذج العربية التي يجري تقطيع وتجزيئ دولهم بشكل عبثي فوضوي يصل لحد الإرهاب أحيانا ويبدو أنها سمة العصر السياسي التفكيكي العربي لكل دولة.