يدور الآن جدل واسع في الأردن الشقيق حول قانون الطفل، بين من يقول: إنه ضروري جداً، لأنه يحمي الأطفال من الانتهاكات، ويوفر لهم حياة كريمة، ومن يقول: إنه قانون مستورد من الغرب، يهدف إلى تدمير الأسرة، ويتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية، والقيم المجتمعية.
مع أنني اطلعت على القانون، وقرأت العديد من وجهات النظر حوله، خاصة من قبل معارضيه، إلا أنني سأتجنب الخوض في تفاصيله، وتفنيد بنوده، أو شرح معانيه، فتلك مسألة تحتاج إلى قانونيين مختصين.. وسأكتفي بالإشارة إلى أبرز النقاط التي يستند إليها المعارضون.
يقول معارضو القانون: "إن الغرب يستهدف الأسرة الأردنية والعربية والإسلامية بهذه القوانين".. "كيان الأسرة لم يعد موجوداً في الدول الغربية، فهي مجتمعات منهارة قيمياً، لأنها تقوم على أساس الفرد، والحريات المنفلتة".. "يسعى الغرب إلى نزع منظومة القيم الأخلاقية في المجتمعات العربية من خلال قوانين تسمح بالشذوذ الجنسي، والإجهاض، وتغيير جنس الطفل تحت مفهوم الجندر، وتغيير الدين تحت مفهوم حرية الاعتقاد".. "قانون الطفل يقيّد دور الوالدين في الرقابة والمتابعة والتربية".. "يوجد في الدستور والقوانين الأردنية المعمول بها ما يكفي لحماية الطفل".. "القانون لا يخدم الطفل، بل يساعد على تدمير الأسرة والطفل معاً".
صحيح أن القانون يتضمن عدة مصطلحات فضفاضة، تحتاج لضبط تعريفاتها وشرح تفاصيلها، لكن القول: إنه يتعارض مع الإسلام، ويدمر الأسرة، ويفتت المجتمع.. إلخ، فيه الكثير من الادعاءات المنطلقة من رؤى أيديولوجية ومواقف سياسية وحزبية دون دليل، وافتراضات غير مستندة لقراءة عقلانية تحليلية، ومن مخاوف غير مبررة مشحونة بعمليات تحريض دوغمائية وشعبوية.
لعل موقف إياد القنيبي أبرز معارضي القانون يلخص تلك المزاعم، إذ قال: "يستند القانون إلى اتفاقية حقوق الطفل، والتي تتضمن العديد من الإشكاليات التي تتصادم مع الإسلام، مثل: حق الطفل في التعليم الجنسي الشامل، واعتبار ممارسة الجنس دون زواج حقاً من حقوقه، ويمنح الطفل الحق في تغيير دينه واختيار الدين الذي يوافق هواه، ويتضمن القانون نصاً يمنع الضرب التأديبي للأبناء من الوالدين".
ربما تكون عبارة "التثقيف الجنسي"، هي التي استفزت المعارضين، فمن منطلقات تخوفاتهم غير المبررة فإن الثقافة الجنسية ستقود حتماً إلى الشذوذ والانفلات! وهذا ادعاء غريب؛ ففي المجتمعات المتقدمة يصار إلى تثقيف الأطفال جنسياً حتى لا يكونوا ضحايا لأيّ اعتداءات جنسية أو إساءات جسدية، كالتحرش، ولتحميهم من سوء المسلكيات الضارة، وحتى يفهموا التبدلات الفسيولوجية التي تحدث في أجسامهم في سنوات المراهقة، وليتربوا على المسلك الصحيح والطبيعي، خاصة في التعامل مع الجنس الآخر.
التخوف الثاني: "إنَّ القانون يمنح الأطفال الفرصة والدافع لترك المنزل، وعدم احترام وطاعة الوالدين، والاستقلالية والانعزال، وحرية التصرف في أي شيء دون استشارة الوالدين، ويسحب دور الأب والأم والأسرة من رعاية الطفل ليرعى شؤونه بنفسه". وهو ادعاء أشد غرابة، وينطلق من عدم الثقة (لا بالوالدين ولا بالأطفال)، فالطفل الذي ينشأ في جو أسري حميم محاطاً بالحب، والعطف، والثقة، والحوار المتكافئ، والاحترام المتبادل سيحب أهله وبيته، وسيتمسك بهما، ولا يمكن له أن يتمرد على والديه بمفهوم الانفلات والفوضى، بل سيستقل بشخصيته وفكره بشكل إيجابي وصحي.. خلافاً للطفل الذي ينشأ في جو أسري غير صحي، يسوده العنف اللفظي والجسدي ونزعات التحكم والسيطرة، حيث سيفقد ثقته بنفسه، ولا تتكون له شخصية مستقلة، فإما أن يتعود على الخضوع والطاعة، أو يحاول التمرد والهروب.
وهذا يقودنا إلى الاعتراض الثالث والأهم (الضرب)، أي حق الوالدين بضرب الطفل بحجة التربية.. وهذا أكبر وهم، وأخطر كذبة نخدع بها أنفسنا لنبرر الضرب والتعنيف بذريعة التأديب.. التربية والتأديب تتطلبان بداية أن نعي أنَّ من حق الطفل أن يخطئ، وأنَّ خطأه مسألة طبيعية في سياق التجربة والتعلّم، وثانياً أن نفهم أسباب وحيثيات الخطأ، ثم نقوم بالحوار العقلاني الهادئ بإقناع الطفل بأن ما قام به خطأ.. وهذا يحتاج إلى هدوء، وتحكم بالأعصاب، وحوار متبادل قائم على الاحترام والاعتراف المتبادل.
أما الضرب والتعنيف والتعزير الذي يمارسه الأهل عندما يقع طفلهم في خطأ ما، فهو عبارة عن تفريغ لغضب مكتوم، واحتقان داخلي، في لحظة عدم تحكم بالأعصاب، وغياب للعقل، والسماح للنزعات البدائية العنيفة بالخروج، وتنفيس الكبت.. ومن يقول عير ذلك يخدع نفسه.
الضرب والتعزير والعنف اللفظي يؤدي فقط إلى قهر الطفل، وإذلاله، وإهدار كرامته، والحطّ من شأنه، وتحقير نفسيته، وترك جروح عميقة في نفسيته ستصاحبه حين يكبر، وستجعل منه إنساناً مشوهاً يعاني الكبت، وبرغبة عميقة للانتقام، وتتركه عرضة للأمراض النفسية والمجتمعية والسلوك الإجرامي وللانحراف.
وكل المجرمين والطغاة والفاسدين والحكام المستبدين والفاشلين صاروا كذلك، لأنهم تعرضوا في طفولتهم للضرب والإذلال.
أما مقولة "لقد تعرضنا للضرب بالشباشب من الأهل، وللعصي من معلمينا حين كنا أطفالاً وطلاباً، وها نحن بألف خير"، فهي الخدعة الأكبر.. من قال إنكم بألف خير؟
مشكلة المجتمعات المتخلفة أنها تجدد تخلفها مع كل جيل، من خلال الضرب والتعنيف، وأساليب التربية التقليدية، وإعادة إنتاج نفس المفاهيم والقيم التي كانت سبباً لتخلفها.. وهي سعيدة بهذا التخلف تحت شعارات المجتمع المحافظ، والقيم والمجتمعية.. دون مراجعة نقدية لهذه القيم.
يقول هشام شرابي (ويؤيده في ذلك إدوارد سعيد، وإبراهيم أبو لغد): المجتمعات العربية حتى لو بدت حديثة في شكلها ومظاهرها المادية، إلا أنها ليست مجتمعات حديثة فعلاً، بل هي مجتمعات تقليدية أبوية، تحكمها علاقات ما قبل الحداثة: الهيمنة الأبوية، والعصبية، والعشائرية، والولاء الطائفي، وقمع الفرد، وتحقير المرأة، والاستهانة بالطفولة. وبالتالي فإن عملية التحرر مرهونة بتفكيك النظام الأبوي، وتحرير المرأة، واحترام الطفولة من منظور تحرري تقدمي فكري وإنساني شامل.
ومن هنا أرى أن جوهر الاعتراض على قانون الطفل (وكذلك قانون حماية الأسرة) هو التخوف من تفكيك النظام البطريركي القائم على هيمنة الذكر (الأب، والزوج، والأخ) على الأسرة، واعتباره المرأة والأطفال أملاكاً شخصية له، يحق له التصرف بها كما يشاء.. ويريد من المجتمع والقانون وتفسيره للشريعة أن يضمن له استمرارية هذه الملكية.
ووفقاً لدراسة نشرتها اليونيسيف في 2021، حوالى 50% من الأطفال في الأردن تعرضوا للإيذاء الجسدي من قبل الأهل.