لم يكن صعباً على أيّ مراقب للمباحثات اللبنانية الإسرائيلية حول ترسيم الحدود البحرية بوساطة نشطة ومباشرة من قبل الإدارة الأميركية أن يتوقع نجاح هذه الوساطة، وأن تنتهي الأمور إلى إشادة معلنة من قبل الحكومتين: اللبنانية والإسرائيلية، بالمسوّدة التي قدمتها الإدارة الأميركية، والإعلان العلني عن "رِضَا" كلّ منهما عن كلّ ما تضمنته هذه المسوّدة.
وكما كان متوقعاً فقد تمّ نزع الفتيل، أو بالأحرى "صاعق التفجير" ــ كما سميناه في مقال سابق ــ وتمّ بهذه النتيجة "تفادي" مواجهة عسكرية مؤكدة كانت ستتمّ حتماً بين "حزب الله" وإسرائيل، وربّما مواجهة أوسع وأشمل وأكبر من ذلك، وبما يمكن أن يصل إلى حربٍ إقليمية شاملة.
الولايات المتحدة ليست بوارد حروبٍ وصراعات سوى تلك التي تؤجّج الصراع المحتدم في أوكرانيا وعليها، أو بحروبٍ أو صراعات تشاغل روسيا أو الصين، أما خارج هذا النطاق فإن الولايات المتحدة "لن" تسمح لأحد ــ كائناً من كان ــ بما في ذلك إسرائيل نفسها "الخروج" عن النسق الأميركي المطلوب بحشد كل قوى الغرب في مواجهة روسيا عسكرياً، وفي مواجهة الصين اقتصادياً إلى أن يحين الوقت "المناسب" لمحاولة "استنزافها" في بحر الصين، وفي محيط تايوان، على "طريق" إيجاد الطريقة الأمثل لابتزازها واستفزازها قبل "إقحامها" في نزاعٍ عسكري مباشر مع تايوان، وازداد الأمر تعقيداً بعد انضمام الجمهوريتين والمقاطعتين إلى روسيا الاتحادية بعد نجاح الاستفتاء فيها كلها، وبعد أن تم التوقيع رسمياً على هذا الانضمام.
وأكثر من ذلك كله فقد تمّ تبادل سجناء مع إيران، وتم، أيضاً، البدء في مسار سلمي للتظاهرات في العراق، وأصبح من الممكن الآن "نجاح" انتخاب رئيس جديد للجمهورية في لبنان، ومن شبه المؤكد أن تتم إعادة العمل بوقف إطلاق النار في اليمن، حتى مع إعلان "الحوثيين" عن وصول اتفاق وقف إطلاق النار الجديد إلى "طريق مسدود"، بل وبات مرجحاً أن يتمّ التوصل إلى اتفاق جديد أوسع وأشمل، ربّما يصل إلى فتح طريق "الحُدَيدة"، والانتقال إلى مرحلة جديدة من الاتفاق، بما في ذلك التزامن بين توسيع الاتفاق وبين فتح مسار سياسي كبير لدعم هذا الاتفاق.
باختصار فإن الولايات المتحدة اختارت سياسة إطفاء الحرائق، وتكريس كل الجهود الدولية التي تسير في الفلك الأميركي لمواجهة مستجدات الحرب في أوكرانيا وعليها.
اللافت فعلاً أن ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل قد أعاد النقاش في إسرائيل وفي لبنان، وفي منطقة الإقليم كله حول "الخضوع" الإسرائيلي، وحول فعالية تهديدات أمين عام "حزب الله" حسن نصر الله، وكذلك حول التخاذل الأميركي أمام هذه التهديدات، وحول تحقيق "انتصار" كبير للحزب جرّاء تهديداته بضرب منصّات استخراج الغاز من قبالة السواحل اللبنانية.
في إسرائيل لم ينتظر نتنياهو ولا لدقيقة واحدة حتى سارع إلى الإعلان المباشر عن رفضه لهذا الاتفاق، معتبراً إيّاه تخاذلاً عن "الحقوق الإسرائيلية"، وخضوعاً لتهديدات "حزب الله".
أما رئيس حكومة الاحتلال يائير لابيد، الذي كان يهدد بإرجاع لبنان إلى العصور الحجرية، ومحو "الضاحية" عن الخارطة، وتدمير ما تبقّى من لبنان، كما جاء على لسان وزير الحرب بيني غانتس، فقد اعتبر أن هذا الاتفاق يأتي لصالح إسرائيل لأن درجة اعتمادية لبنان على إيران، وعلى "حزب الله" ستتقلّص مع بدء استخراج الغاز اللبناني، وأن من شأن ذلك التقليل من الهيمنة الإيرانية عليه.
الحقيقة أن لابيد، ووزير حربه مغلوبان على أمرهما، وهما لا يملكان قرار الحرب في هذه المرحلة، لا في لبنان، ولا على قطاع غزة، إذا تعلّق الأمر بحربٍ حقيقية، ولا يملكان قرار الحرب ضد إيران، وكل ما هو مسموح لهما هو استهداف بعض الأهداف في سورية، والعمل الاستخباري في إيران، إلى أن تتّضح ملامح الصورة النهائية في أوكرانيا.
والحقيقة الثانية، هي أن لبنان الذي تجتمع رئاساته الثلاث اليوم من أجل بحث مسوّدة الاتفاق سيعتبر نفسه قد انتصر في معركة حقوقه في الغاز الساحلي، وأن إسرائيل هي التي تراجعت، وبالتالي فإن الاتفاق سيعزّز من صورة "حزب الله"، وليس العكس، ولا أدري كيف سيتقلّص نفوذ إيران في لبنان مع تعزيز موقع ومكانة "حزب الله" فيه، خصوصاً وأن الصورة العامة بالنسبة لعامة الناس في لبنان، وفي الإقليم تعتبر ــ بصرف النظر عن صحّة ودقّة ذلك ــ أن إسرائيل ما كانت لتخضع لولا تلك التهديدات.
الصراع في إسرائيل حول الحدود البحرية ما زال في بداياته الأولى، وهو صراع ما زال غامضاً إلى حدٍّ ما، لأن هناك الكثير من التفاصيل المهمة، والتي تحدد درجة "الخضوع" الإسرائيلي، وليس واضحاً بعد فحوى ما قاله رئيس الحكومة الاحتلالية من أن الاتفاق يحفظ أمن إسرائيل بالكامل.
كما أن ما يقوله نتنياهو حول أن لابيد ليس "مخوّلاً" بـ "التنازل" عن مساحات "سيادية" إسرائيلية قد يفجّر صراعاً قانونياً في إسرائيل حول صلاحيات حكومة تصريف أعمال بمثل هذه التنازلات، كما أن الأمور قد تأخذ طابعاً شاملاً إذا ما تمّ "تجييش" المعسكرات المتناحرة في إسرائيل حول هذه المسألة، وقد يتحول الصراع عليها إلى الشغل الشاغل للمعارك الانتخابية، وقد يتجاوز الأمر كل التوقعات الحالية.
وأما في لبنان فإن اتفاق الرئاسات الثلاث، وهو متوقع على كل حال، نظراً للحاجة اللبنانية الماسّة لمردود الغاز على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتدهورة فيه، من شأنه أن يُبقي أي خلافات بشأن الترسيم في دائرة معقولة من الصراع، أما إذا ما حدث اختلاف بين الرئاسات الثلاث على المسوّدة فإن صراعاً حادّاً وخطيراً سينشب في لبنان يزيد كل هذه الأوضاع تدهوراً على كل التدهور القائم فيه.
الأمر كله الآن هو أن الإدارة الأميركية ستضغط بكل قوتها لكي لا يفلت من بين أيديها أي شيء، مهما كان صغيراً أو هامشياً، وهي تراهن على بقاء كل الخيوط بين أصابعها، خصوصاً وأن الانتخابات الإسرائيلية على الأبواب، والأميركية كذلك، ولا تحتمل "الأوضاع" أي خلخلات قد تؤدّي إلى أزمات فوق الأزمات، أو إلى تطورات من شأنها أن تربك الإدارة الأميركية المرتبكة إلى أبعد الحدود، والتي باتت تمثل تهديداً مباشراً ليس فقط للانتخابات النصفية، وإنما لكامل دورة الانتخابات القادمة، ولانتخاب الرئيس الأميركي، إضافةً إلى أزمة الانتخابات الإسرائيلية.
فهل أن تهديدات "حزب الله" هي التي أفضت إلى هذه النتيجة فعلاً، أم أن قراءة "حزب الله" هي التي أدّت إلى الإعلان عن التهديدات؟
هذا درسٌ مهم في أهمية القراءة السياسية الصحيحة.
أغلب الظنّ أن وضع الأميركيين وأزمتهم، وبالتالي الأزمة الإسرائيلية من خلفهم هي من جعل للتهديدات المعنى والمغزى والأهمية، وليس التهديدات بحدِّ ذاتها.