ربما كانت الفرصة الأخيرة، لـ «المبادرة الجزائرية»، التي أرادت أن تستعيد ماضيًا تليدًا، لعبت القيادة الجزائرية على الدوام، دور المساعد القوي والفعّال، لمعالجة الخلافات بين الفصائل الفلسطينية.
الفصائل ستعقد اجتماعاً عاماً بحضور الجميع في العاشر من هذا الشهر، لإدارة حوار سبقته لقاءات وحوارات ثنائية لم تسفر عن شيء حتى اللحظة.
الجزائر بقيت كما هي على العهد، إزاء تبني ودعم القضية الفلسطينية وأهلها، وكذا بقي الفلسطينيون على عهد إعجابهم، واحترامهم للجزائر، غير أن ثمة تغييرًا جوهريًا وقع ليس على مستوى الاحترام والتقدير المتبادل.
في سابق الزمن، وقبل توقيع اتفاقية أوسلو، كان التدخل الجزائري لتقريب وجهات النظر، ومنع الانشقاقات في الحركة الوطنية الفلسطينية، وضبط تلك الخلافات في إطار منظمة التحرير الفلسطينية.
الخلافات في الساحة الفلسطينية كانت دائماً موجودة، وفي أحيانٍ قليلة، كانت تنطوي على شيءٍ من الاستقطاب والحدة، لكنها ولا مرة خرجت عن التئام الكل الفلسطيني بمنظمة التحرير باعتبارها الجبهة الوطنية، والممثل الشرعي الوحيد.
لم يخرج أي فصيل عن هذا الإطار، والتنافس كان داخل المنظمة وليس عليها، فالفصائل كانت تقدم نفسها بديلاً عن بعضها بعضاً، ولكن ليس بديلاً أو منافساً للمنظمة.
الدنيا اختلفت هذه المرة، والاختلاف وقع في الحركة الوطنية الفلسطينية وليس في الموقف الجزائري. الحديث يدور عن انقسام عميق وليس مجرد خلافات سياسية أو غير سياسية.
والخلاف يدور حول تناقضات استراتيجية ورؤى متباينة إزاء المشروع والأهداف الوطنية العامة، وأطر وآليات التعاطي مع الاحتلال.
هذه المرة، الانقسام وقع في الظاهر بين حركتي فتح وحماس، ولكنه في الخلفية يعكس تنافساً على المنظمة، ووحدانية تمثيلها للشعب الفلسطيني، بالرغم من أن «حماس» أعلنت خلال السنوات القليلة المنصرمة، أنها تعترف بمنظمة التحرير ممثلاً للفلسطينيين، وترغب في التوصل إلى شراكات في إطارها.
ثمة أزمة ثقة عميقة وشكوك لدى طرفي الانقسام، الذي انتقل منذ وقتٍ ليس قصيراً إلى مرحلة المأسسة والتعمّق والرسوخ. الانقسام الراهن الذي يتجاوز الخلاف، يتخذ طابعاً جغرافياً، واجتماعياً وثقافياً وسياسياً، بين سلطتين: واحدة في رام الله والأخرى في غزة.
والانقسام في هذه المرة، لم يعد موضوعاً فلسطينياً وحسب، بل إن أطرافاً عديدة بالإضافة إلى إسرائيل، تعمل على تعميقه وتأبيده وتبني على استمراره مشاريع ومخططات معادية للقضية الفلسطينية.
دفع الفلسطينيون أثماناً باهظة عند وقوع الانقسام، وعليهم أن يدفعوا أثماناً باهظة في حال توافقوا على إنهائه واستعادة الوحدة.
نتذكّر حين تم الاتفاق في منزل إسماعيل هنية في مخيم الشاطئ العام 2014، وتشكّلت بموجبه «حكومة الوفاق الوطني» برئاسة الدكتور رامي الحمد الله، بعد شهر واحد تقريباً، من تشكيل «حكومة الوفاق» كانت إسرائيل قد شنّت حرباً على قطاع غزة استمرت واحداً وخمسين يوماً.
كل ذلك ليس مدعاة لليأس، والإحباط، لو أن القيادات الفلسطينية تمتلك الإرادة الكافية، لتجاوز هذا الواقع الأليم، وتبدي استعداداً حقيقياً لتقديم تنازلات، ودفع الثمن، غير أن الواقع يشير إلى أن الحسابات الخاصة والفصائلية هي من تقرر في الأخير.
خلال مرحلة الانقسام الطويلة، نشأت أوضاعاً من الصعب تجاوزها أو تحمُّل المسؤولية عنها، ذلك أن المنظمة أو السلطة لا تستطيعان تحمُّل الأعباء المترتبة عن «قوة المقاومة المسلّحة» في غزة، وبالمقابل، فإن «حماس» لا تستطيع التخلّي عن «المقاومة»، أو تحمُّل ثمن النهج السياسي للسلطة.
هذا يعني أن المهمة الجزائرية ليست سهلة على الإطلاق، خصوصاً بعد أن أفضت الحوارات والاتفاقيات السابقة بين الفصائل، إلى تدوير كافة الزوايا، دون أن تنجح في التوصل إلى حلول.
كانت آخر التجارب والمحاولات، التي تجاوزت كافة الاتفاقات السابقة تتمثل في إجراء الانتخابات العامة لـ«الرئاسة» و«التشريعي» و«الوطني» باعتبار ذلك يشكل المدخل الأساسي لإنهاء الانقسام، غير أن تلك المحاولة فشلت، سواء لسبب موقف إسرائيل الذي يمنع إجراء الانتخابات في القدس، أو إن كان ذلك، بسبب حسابات فئوية من قبل حركة فتح، تحسُّباً لنتائجها وبالرغم من أن الحركتين اتفقتا على خوض الانتخابات بقائمة واحدة، ما يعني المحاصصة.
الجزائريون لم يتعوّدوا على ممارسة ضغط على أطراف الخلاف أو أطراف الانقسام، لكنهم أرادو أن يحققوا اختراقاً يساعدهم على تحسين قرارات القمة التي ستنعقد في الجزائر مطلع الشهر القادم.
في هذه الحالة، فإن المرجّح أن تفشل الحوارات الثنائية والجماعية في التوصل إلى اتفاق حقيقي قابل للتنفيذ، أو تحقيق اختراق في هذا الملف، خاصة أن الوقت ينفد، ولكن إذ لا يقبل الفلسطينيون من كافة الأطراف، بأن تنتهي «المبادرة الجزائرية» إلى الفشل، فإنها من المرجّح أن تصدر بياناً عاماً، يتضمن الشكر للجزائر، ويعكس رغبة فلسطينية عند جميع الأطراف، في الالتزام بالسعي نحو إنهاء الانقسام.
لقد تدخّلت أطراف عديدة إقليمية ودولية، لإقفال هذا الملف، وجرت حوارات، ولقاءات عديدة، ثنائية وجماعية، لكن الأوضاع تتجه نحو الأسوأ.
إنهاء الانقسام عدا متطلباته الوطنية فإنه يحتاج إلى رعاية وحماية من قبل أطراف قادرة على ردع السياسة الإسرائيلية التي ستتدخل بكل وسيلة، بما في ذلك الإرهاب والعنف لمنع الفلسطينيين من إقفال ملف الانقسام، واستعادة وحدتهم.
لا يملك الفلسطينيون سوى أن يقدموا الشكر والامتنان للقيادة الجزائرية وألا يعودوا إلى لغة التشكيك والاتهامات بما يعمّق الانقسام، كحدٍّ أدنى.