لم تتوقف الجنازات، تغيب عن حياتنا بعض الوقت، إلا أنها لا بد وأن تعود، فهذا هو قانون الاحتلال والمقاومة.
هنالك تفسيرات موسمية لما تحب إسرائيل تسميته بالتصعيد، منها وهو الأكثر تداولا هذه الأيام ارتفاع حرارة التنافس الانتخابي، وحاجة من يتطلعون للفوز لتحقيق إنجازات امنية توفر أصواتا في صناديق الاقتراع.
حدث ذلك في الحرب الأخيرة على غزة التي كان متاحًا تجنبها، وها هو يحدث مثله في الضفة حيث كرة النار تتنقل من مكان إلى آخر، ويرتفع منسوب حصاد الأرواح كلما اقترب الناخبون من الذهاب إلى الصناديق.
ورغم منطقية وواقعية هذا الدافع لما تفعل إسرائيل، إلا أن التنافس الانتخابي يظل سببًا جزئيًا وموسميًا للحرب الدائمة التي تشنها على الفلسطينيين والتي أن هدأت بعض الوقت إلا أن دوافع اشتعالها تظل قائمة طوال الوقت.
إسرائيل التي يتجاهل صناع القرار فيها خلاصات الدروس السابقة التي نجمت عن تفضيل البطش بالفلسطينيين على السعي الجدي لحل سياسي معهم، ولو راجعوا تاريخ حربهم الدائمة وما تخللها من فصول دامية ومرتفعة الكلفة، لتوصلوا إلى بديهية مفادها، أن كل ما فعلوه من قتل وتدمير وحصار حتى الخنق، لم يفض إلا إلى ما نحن فيه الآن، حيث النزف المستمر من الجسد الفلسطيني العنيد، والنزف المعنوي بالابتعاد الإسرائيلي عن تحقيق ما يصبو اليه من امن وطمأنينة واستقرار.
إسرائيل التي اخترعت لطبقتها السياسية بشقيها الحاكم والمعارض مصطلح المرنين والمتشددين، تمارس الآن سياسة يصلح وصفها بالاستدراج المدروس والمبرمج لانتفاضة فلسطينية، يخدم البطش بها أجندات ومتطلبات التنافس على السلطة، دون اكتراث بالمضاعفات الناجمة عن ذلك وأهمها وأكثرها واقعية، فقدان السيطرة وفتح الأبواب على مصاريعها لأحداث دامية لا أحد يعرف إلى ماذا ستفضي، وكم سيكون مداها الزمني.
إسرائيل تعالج الموقف الذي تقر بخطورته بوسائل ليست مجرد عديمة الجدوى، بل تحقق نتائج عكسية، فهذه السياسة تبدو غير منطقية وحتى لجزء هام من رأيها العام الداخلي وأقرب حلفائها.
والأشد "لا منطقية" فيما تعمل هو سعيها لجعل السلطة الفلسطينية وكيلا أمنيا كما لو أنها رديف لجيش الدفاع وما ينبثق عنه من قوى امنية واستخبارية.
صناع القرار في إسرائيل يتجاهلون الحقيقة الأهم مع انهم يشكون منها، وهي أن السلطة التي سلبتها الحدود الدنيا من نفوذها وهيبتها وسيطرتها وحتى الرهان السياسي عليها، ربما تنهار بفعل فقدان مبرر الوجود، وفي حالة كهذه يفترض أن إسرائيل تعرف المضاعفات الخطرة عليها الناجمة عن احتمال كهذا.
السلطة الفلسطينية بواقعها الراهن تعاني من حالة شديدة الهشاشة فهي واقعة بين مطرقة الاحتلال وسندان المسلحين، ومن ضمنهم فتحاويون من الذين أخذوا على عاتقهم الخاص إطلاق النار على الاحتلال حيثما أمكن، ويقدمون كل يوم شهداء يحصدون تعاطفا شعبيا يصب كله في غير مصلحة السلطة وصدقيتها وسياساتها.
كانت سيطرة السلطة مضمونة وحتى قوية حين كانت سياساتها الأمنية تسير جنبا إلى جنب وبتوازن معقول ومقنع مع تقدم المسار السياسي المراهن عليه لإنهاء الاحتلال وقيام الدولة، أما الآن حيث لا مسار سياسيًا على الاطلاق ولا حتى مؤشرات أولية على الإعداد له، فكيف يتسنى للسلطة تفسير موقفها في ظل حالة انعدام التوازن بين السياسة والأمن واستبداله "بلا توازن" يقوم على الضغط والاكراه والابتزاز لقاء تسهيلات ثانوية لا يقتنع بجدواها أحد.
"لا منطقية" السياسة الإسرائيلية قد تنفع لبيد في التقدم خطوات نحو حلم رئاسة الوزراء، وقد تنفع نتنياهو في ذات الاتجاه، غير انها وفق تجارب الماضي والاحتمالات المستقبلية، تفتح المدى واسعا على خطر لن يصيب الفلسطينيين وحدهم وها نحن في البدايات.