استعار رئيس وزراء دولة الكيان السابق نفتالي بينت بعد وصوله الى رئاسة حكومة دولة الكيان مصطلح " تقليص " الصراع الفلسطيني- " الإسرائيلي" من استاذ التاريخ الإسرائيلي ميخا غودمان الذي نشر في 15 تموز/2021 مقالاً باللغة الفرنسية بعنوان " إجماع اسرائيل المفاجىء على القضية الفلسطينية، وهذا المفهوم يعني بالملموس السعي وراء كل سياسة من شأنها ان تعزز بشكل كبير الحكم الذاتي الفلسطيني دون تهديد الأمن الإسرائيلي، وفي صميم خطة تقليص الصراع هذه، سيُبذل جهد لخلق تواصل جغرافي بين الجزر الفلسطينية المتمتعة بالحكم الذاتي في الضفة الغربية، وربط هذا الحكم الذاتي ببقية العالم، وتعزيز الازدهار الاقتصادي والاستقلال الذاتي الفلسطيني، والهدف من هذه الاستراتيجية هو تحويل الشبكة المجزأة والهشة لجزر الضفة الغربية المتمتعة بالحكم الذاتي الى نظام سياسي متواصل ومزدهر.
وهذا المفهوم يقوم على اساس هدن تمدد وامن مقابل اقتصاد وتسهيلات في قطاع غزة، وسلام اقتصادي وتعاون امني في الضفة الغربية، وهذا الموقف يندرج ضمن المواقف الإسرائيلية لكافة الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على رفض منح الشعب الفلسطيني أي دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من حزيران /1967 وعاصمتها القدس، ورفض حق العودة للاجئين الفلسطينيين وفق قرارات الشرعية الدولية.
ولكن يبدو بأن دولة الكيان سواء في عهد حكومة بينت التي تبنت هذا الشعار وحكومة لبيد – غانتس التي خلفتها، اختارت تصعيد الصراع وليس تقليصه، وهذا لمسناه من بعد العمليات الكبرى التي نفذت في قلب دولة الكيان في بئر السبع والخضيرة وشارعي ديزنكوف وبني براك في تل ابيب والعديد من مستوطنات الضفة الغربية في شهري آذار ونيسان الماضيين من هذا العام.
من بعد تلك العمليات أطلقت حكومة الكيان مجموعة من العمليات العسكرية من أجل استعادة قوة الردع، ولمواجهة الانتقادات والاتهامات الواسعة التي وجهت لها من قبل الجمهور الإسرائيلي وقوى المعارضة الإسرائيلية، بالضعف والرضوخ أمام التنظيمات الفلسطينية، ولذلك أطلقت عمليتي ما عرف بـ"جز العشب"، وكانت ساحتها الرئيسية جنين ومخيمها، على اعتبار أن جنين، تشكل الحاضنة الأساسية لقوى المقاومة، و"جز العشب" بهدف تقليم واجتثاث قوى المقاومة، ومنعها من التواصل في النمو والارتقاء والتصلب والتجذر، وهي موجهة بالأساس ضد ما تسميه دولة الكيان بعمليات "الذئب المنفرد" التي يصعب كشفها في مرحلة الإعداد التخطيط والتهيئة، وبالتوازي مع ذلك اطلقت عملية ما عرف ب"كاسر الأمواج" والتي تقوم على أساس الإنهاك المستمر من خلال القيام بعمليات متواصلة من الاقتحامات والاغتيالات والتصفيات والاعتقالات الاستباقية، لمنع تبلور بنى وهياكل تنظيمية لقوى المقاومة، وابقاء مقاومة جنين في إطارها المحلي، بما يمكن من محاصرتها وتصفيتها، ولكن يبدو بأن هذه العمليات العسكرية، رغم العدد الكبير من الشهداء والمعتقلين، وحجم الدمار والتدمير والخراب الواسع، لكن "بقعة الزيت" تدحرجت من جنين الى بقية مناطق شمال الضفة الغربية المحتلة، وخاصة نابلس ومخيماتها، وهذا مؤشر على ان دولة الكيان لم تستطع ان تستعيد قوة الردع، وأصبحت الضفة تعيش اجواء انتفاضية شبيهة بالانتفاضات السابقة، ولكن هناك اختلاف من حيث الأسلوب والشكل وحجم المشاركة ،ويمكن ان نطلق على ما يحصل بانتفاضة من نوع خاص تمازج بين الحجر والقنابل الحارقة " المولتوف" والسلاح الناري والسلاح الأبيض وعمليات الدهس، وكان لافتاً بأن عمليات إطلاق النار الفردية والمنظمة ،المستهدفة المستوطنين وجنود الاحتلال في تصاعد، وهذا عمق من أزمة دولة الكيان الأمنية والسياسية، وتصاعد حدة الانتقادات والاتهامات لها بالقصور والخنوع، وعدم القدرة على ضبط الأمور، وفقدان الأمن للمجتمع الإسرائيلي، وفقدان الثقة بالمؤسستين الأمنية والعسكرية، ومع اقتراب الانتخابات التبكيرية الخامسة، والخوف من خسارتها لصالح المعارضة وعودة نتنياهو مجدداً رئيساً للوزراء، وجدنا ان تلك الحكومة قادت عملية تصعيد ممنهجة على كامل مساحة فلسطين التاريخية، حيث شنت حرباً عدوانية على قطاع غزة في 5/8/ 2022،تحت ذريعة استهداف حركة الجهاد الإسلامي، وإفشال عمليات عسكرية لها، ومباشرة صعدت في الضفة الغربية عبر حملة اغتيالات في مدينة نابلس، ومن ثم جنين، وكذلك كان التصعيد سيد الموقف في القدس والأقصى.
في الضفة تصاعد الاستيطان بشكل غير مسبوق، وفي القدس مخططات التهويد للقدس والأقصى والإجهاز على المدينة لم تتوقف، والسعي لتصفية قضية اللاجئين، والتمييز العنصري ضد شعبنا في الداخل الفلسطيني- 48-، وعدوان وحصار على قطاع غزة.
وفي الواقع الميداني، في الضفة الغربية لم تتوقف علميات الاغتيالات والتصفيات والاعتقالات والاقتحامات، والخوف من أن يأتي تصاعد العمليات العسكرية في الضفة الغربية، لتغيير وجهة نظر الناخبين نحو اليمين والتطرف وبالتالي اعطاء نتنياهو الفرصة لتشكيل الحكومة الإسرائيلية القادمة، جعل المؤسسات العسكرية والأمنية والسياسية، تدرس مجموعة من الخيارات، منها ابقاء وتيرة التصعيد الحالي على ما هي عليه، تخفيف شروط التصعيد الحالي، والضغط على السلطة لكي تضاعف من تنسيقها الأمني، والعمل على لجم قوى المقاومة من خلال الاعتقالات وجمع السلاح، ويبدو بأن هذا الخيار قد سقط، فهو بحد ذاته وصفه لتحويل الصراع الى صراع فلسطيني- فلسطيني لحساب دولة الكيان دون أفق سياسي، والسلطة حاولت ان تجس نبض المقاومين عبر مفاوضتهم لتسليم سلاحهم والانخراط في أجهزة السلطة ومنحهم رواتب وضمان عدم اعتقالهم من قبل الإحتلال، ولكن يبدو بأن المقاومين ممثلين بكتيبة "عرين الأسود" رفضت ذلك، وكذلك درست حكومة الكيان، تصعيد الاغتيالات النوعية بواسطة الطائرات المسيرة، أو توسيع عملية ما يعرف ب"كاسر الأمواج وتصعيدها.
يبدو بأن حكومة الكيان ستواصل عمليات تصعيدها مع اقتراب الانتخابات التبكيرية الخامسة، على طول مساحة فلسطين التاريخية، وخاصة في شمال الضفة الغربية، فعدا عن الطبيعة العدوانية لهذه الدولة والتي تستهدف تصفية قوى المقاومة ،والتي باتت مصدر قلق وصداع لدولة الكيان ،فهي ترى بأن أي عمليات نوعية من شأنها أن تشكل تحول في الرأي العام الإسرائيلي لجهة نتنياهو وقوى اليمين المتحالفة معه، ولذلك هي تضغط على السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية وعبر العديد من أجهزة الأمن العربية، وكذلك بواسطة أمريكا، والتي استقبلت وزير الشؤون المدنية وعضو اللجنة التنفيذية للمنظمة حسين الشيخ الأسبوع الماضي ،وطلبت منه بشكل واضح العمل على تفكيك بؤر المقاومة في شمال الضفة الغربية وجمع السلاح، وبأن أمن دولة الكيان أولوية على أي شيء آخر فلا افق سياسي في المرحلة الحالية، وكذلك تراجعت دولة الكيان عن التوقيع على مسودة اتفاق الترسيم البحري مع لبنان، بعد الملاحظات التي ابدتها الحكومة اللبنانية عليه، وتصاعد المعارضة لهذا الترسيم من داخل الإئتلاف الحاكم ومن خارجه، وبما يجعل تمريره ثمنه خسارة تحالف لبيد - غانتس للانتخابات، ولذلك سيبقى التصعيد سيد الموقف من قبل تلك الحكومة، موظفة الاستيطان والدم الفلسطيني والأقصى في قضية الانتخابات الإسرائيلية، وكذلك ستعمل على إغلاق أي أفق سياسي في العلاقة مع السلطة الفلسطينية، وإبقاء هذه العلاقة في إطار "السلام الاقتصادي والتنسيق الأمني.