منذ سنوات والدنيا كلها تحذر إسرائيل من انتفاضة ثالثة تبدو حتمية، بل تظهر في الأفق، خاصة منذ توقف التفاوض وارتفاع حدة اعتداءات المستوطنين في مدن وقرى الضفة الفلسطينية المحتلة، واستفزازات المتطرفين باقتحاماتهم المتتالية للحرم القدسي الشريف، لكن إسرائيل ورغم التحذيرات المتتالية والمستمرة من الجانب الفلسطيني والتي كثيراً ما كانت تتزامن مع تحذيرات المستويات الأمنية الإسرائيلية نفسها، ظلت تتجاهل التحذيرات وتضع رأسها في التراب كما النعام، وذلك بسبب الانزياح اليميني الذي سار عليه المجتمع الإسرائيلي منذ عقود، أما على الجانب الفلسطيني، فإن جميع الأطراف تابعت بترقب الوضع الداخلي، تنتظر لحظة اندلاع تلك الانتفاضة، مخمنة الصورة التي ستكون عليها، بعد انتفاضتين الأولى اندلعت في العام 1987، وكانت شعبية خالصة، وكان سلاحها الرئيسي الحجارة والنقّيفة والمقلاع، والثانية ظهرت في العام 2000، وكانت مسلحة، نظراً الى أنها قامت في ظل وجود السلطة الفلسطينية، حيث انخرط في صفوفها العديد من أفراد الأمن الوطني والأجهزة الأمنية.
كثير من المراقبين أو المتابعين ممن ظلوا يتوقعون اندلاع الانتفاضة الثالثة، وذلك بسبب انسداد الأفق السياسي، وكحل وحيد لا بد منه لطرد الاحتلال، أكدوا على أن الانتفاضة الثالثة ستكون مختلفة عن سابقتيها، وذلك بالطبع نظراً لاختلاف الظروف الدولية والإقليمية وحتى الوطنية نفسها، وفي حين كان يحدد أو يشترط أو حتى يحاول البعض أن يدفع بها لتكون على شاكلة الانتفاضة الأولى، أي شعبية وسلمية، حتى تحظى بالتعاطف الرسمي والشعبي الدولي، كان البعض الآخر يصر على أن تكون مسلحة، تلحق الخسائر بالعدو، لأنه لا يقيم وزناً لا للقانون الدولي، ولا للأخلاق الإنسانية لدرجة أن يرتكب المجازر وجرائم الحرب، ويفلت من العقاب، حيث إن خسائره وحدها هي التي تجبره على الرضوخ لإرادة الحرية الفلسطينية وإعادة حساباته.
وفي حقيقة الأمر، فإن ما كان يثقل كاهل مقاومة الشعب الفلسطيني، رغم ما تعرض له على مدار عقد ونصف مضت من السنين، هو أولاً حالة الانقسام، التي كانت تحول دون أن تتشكل قيادة موحدة ميدانية وسياسية للانتفاضة الثالثة، والتي هي ضرورية جداً، بسبب الاختلاف الجوهري في رؤية السلاح والطابع الرئيسي الذي يجب أن تكون عليه الانتفاضة الثالثة، وثانياً، أن غزة خرجت عملياً من المواجهة المباشرة، وإن كانت تقوم بإسناد كل ما وقع من هبات و»ثورات» موقعية، خاصة في القدس، التي قاومت في هبة البوابات الحديدية محاولة الاحتلال تهويد الأقصى وفرض التقاسم الزماني والمكاني عليه، وذلك من خلال إطلاق رشقات الصواريخ التي تمتلكها باتجاه مدن الغلاف وحتى العمق الإسرائيلي. أي أن الانتفاضة الثالثة ميدانياً تقتصر على القدس ومدن وقرى الضفة الفلسطينية، دون قطاع غزة، الذي خرجت إسرائيل من داخله منذ عام 2005، لكن التداعيات أو التأثيرات السلبية للانقسام الداخلي لا تقتصر على عدم مشاركة قطاع غزة في الانتفاضة الثالثة ميدانياً، ذلك أن الانقسام لا يقتصر على القسمة الجغرافية فقط، بل هو يحول دون وحدة «فتح» و»حماس»، وهما أكبر فصيلين فلسطينيين ميدانياً، وفي حين شجعت «فتح» الكفاح الشعبي وصولا لانتفاضة ثالثة شعبية، فإن «حماس» شجعت تنفيذ عمليات الطعن بالسكاكين والدهس بالسيارات وما الى ذلك، وانخرطت ربما بحكم وجودها القوي في جنوب الضفة الفلسطينية، في مجموعات المرابطين في الأقصى، بحيث تركت ساحات الشمال في جنين ونابلس لعناصر «فتح» و»الجهاد الإسلامي».
المهم أن العام الحالي، الذي شهد عملية «كاسر الأمواج» الإسرائيلية، منذ آذار الماضي، سجل ظهور كل الدلالات التي تشير الى الانتفاضة الثالثة، التي تنتظر اكتمال آخر أركانها، المتمثل بالانخراط الجماهيري العارم في المواجهات وحالات التصدي لاقتحامات الجيش الإسرائيلي وعناصره الأمنية ومستوطنيه، والتي أخذت تتصاعد في جرأتها لدرجة الاشتباك مع العدو بالسلاح الناري، وعرقلة، إن لم يكن منع دخوله مدن وقرى وأحياء جنين ونابلس.
يمكن القول بأن جنين ونابلس، ومن ثم القدس وشعفاط وحتى بيت لحم سجلت عمليات مذهلة، وصولاً على عملية شعفاط، قبل أيام، حيث قام شاب بإطلاق النار على حاجز عسكري إسرائيلي، وأفلت طول أيام من آلة الأمن الإسرائيلية، الأمر الذي دفع بالاحتلال المصاب في كبريائه الى تطبيق العقاب الجماعي بمحاصرة شعفاط كلها، كذلك فرص الحصار على معظم نابلس، وصولاً الى القدس.
الغريب أن ما كان متوقعاً من اندلاع المواجهات بين المتدينين اليهود والمواطنين الفلسطينيين خلال أيام الأعياد اليهودية، لم يكن بالحدة المتوقعة، وبدلاً منها كانت المواجهة بين جنود الاحتلال والمقاومين الفلسطينيين، الذين بتقدير إسرائيل نفسها، هم شباب في العشرينيات من العمر، أي أنهم ولدوا بعد تشكيل السلطة الفلسطينية وبعد «أوسلو»، كذلك هم دون «سوابق» أمنية، ولا علاقة لهم بالتنظيمات الفلسطينية، أي أن المقاومة خلال ما يظهر كإرهاصات جدية على انطلاق الانتفاضة الثالثة، تجري بمبادرات فردية، ذلك أن الشعب الفلسطيني، خاصة الشباب منه الذي يحلم بغد أفضل، قد ضاق ذرعا بالاحتلال، ويسعى لطرده اليوم قبل الغد.
لكن وكما حدث في الانتفاضة الأولى، التي بدأت عفوية وشعبية، سرعان ما تفرض الحاجة لتطور المقاومة واستمرارها، اجتماع الأفراد في مجموعات، ثم في تنظيمات ربما لا تكون هي التنظيمات القائمة حالياً، وهكذا يمكننا أن نفسر ظهور «عرين الأسود» إعلامياً، والتي حذرت الاحتلال بقوة من مغبة إرسال متطرفيه الى قبر يوسف في نابلس، والتي على ما يبدو أنها تلك المجموعات المسلحة التي تصدت لاقتحامات الجيش الإسرائيلي لجبل النار ومخيماتها، بحيث يمكن القول بأن إعلان «عرين الأسود» يذكرنا بالبيان الأول للانتفاضة الأولى، التي تأخذ منها هذه الانتفاضة طابعها الشعبي، أي بانخراط جماهير الشعب، في العمل المقاوم، فيما يتصدى الأبطال المقاومون لجنده، بالسلاح الناري، وهم ينتسبون لفلسطين، لأنهم ليسوا بحاجة الى عنوان فصائلي، حتى يقولوا نحن فلسطينيون نقاوم الاحتلال، بل ربما أنهم بذلك يشقون طريق الوحدة، لا كتحصيل جمع الاثنين، «فتح» و»حماس»، ولا كحاصل جمع 14 فصيلاً، بل كرد فعل طبيعي على الاحتلال، فالمقاومة هي طريق الوحدة، وأن تقاوم الاحتلال يعني أنك فلسطيني لا غبار على انتمائك للوطن.
أما إعلان الجزائر للم الشمل الفلسطيني، فإنه يذكر بإعلان الاستقلال، وكما أشرنا في مقال سابق، يحيل الى المجلس الوطني التوحيدي الذي انعقد في عاصمة المليون شهيد في نيسان 1987، وكان أحد روافع ودوافع الانتفاضة الأولى، وهكذا سيكون حال إعلان الجزائر للم الشمل، رافعة الانتفاضة الثالثة، انتفاضة طرد الاحتلال الإسرائيلي من القدس ومن كل أرض دولة فلسطين المحتلة.