قبل أن تكون أوسلو الفلسطينية-الإسرائيلية اتفاقاً أو تفاهماً بين طرفين متحاربين، فهي في أساسها منهج جرى من خلاله استبدال القواعد التي تحكم الصراع من قواعد القتال إلى قواعد التسوية.
المتشابه بين أوسلو الفلسطينية وما حدث مع لبنان هو أن كل طرف من أطراف التسوية الجزئية وجد قرائن ليست بالضرورة دقيقة على الزعم بأنه حقق كل ما يريد.
في أوسلو الفلسطينية زعم صناعها بأنهم وضعوا أقدامهم على أرض الوطن لبدء رحلة ممهدة ومؤيدة دولياً يقيمون من خلالها دولتهم خلال خمس سنوات، الإسرائيليون في حينه مرروا الاتفاق بصوت واحد وهنا يظهر بعض تشابه مع الاتفاق اللبناني الذي سيقر من دون تصويت، خوفاً من أن يكون الصوت الواحد الذي أقر أوسلو الفلسطينية هو الصوت الذي ينسف «أوسلو اللبنانية».
الإسرائيليون قالوا في حينه إنهم أنجزوا اتفاقاً أمنياً توضع السياسة فيه تحت اختبار يومي، وعلى ضوء نتائج الاختبار، وفق تقييم الخصم والحكم الإسرائيلي، إما أن تمضي أوسلو نحو هدفها الفلسطيني وإما أن تنحرف نحو الهدف الإسرائيلي.
أوسلو التي أنجبتها صيغة مدريد «الناقصة» أخرجها إلى النور الثنائي المتحالف رابين - بيريس، مثلما سيخرج اللبنانية الثنائي المتحالف لبيد - غانتس، ومثلما كان الصوت العربي هو الذي مرر أوسلو الفلسطينية، فإن الصوت العربي هو الذي حسم تثبيت رعاة أوسلو اللبنانية وفره منصور عباس للبيد وغانتس.
المشترك بين اللبنانية والفلسطينية هو المتربص خلف الأبواب نتنياهو، الذي بتحالفه القديم مع شارون أطاح بعرّابي أوسلو الفلسطينية، وها هو يعد بإطاحة مماثلة لعرّابي اللبنانية، والأمر لن يحتاج إلا إلى صوت واحد كي يغير المعادلة وينقضّ على كل ما حققه الذين أطاحوا به، والمشترك كذلك هو أن التعويل على الدعم الأميركي للاتفاق ليس في محله ولا يجسد ضمانة نهائية، نستنتج ذلك على ضوء ما حدث لأوسلو الفلسطينية، فرغم أن الاتفاق الفلسطيني الإسرائيلي أنجز أولياً من وراء ظهر الإدارة الأميركية في حينه، فإنها استولت عليه وتبنته والتزمت به وأنفقت عليه، غير أن كل ذلك لم يفلح في تحالف شارون - نتنياهو من الانقضاض عليه وتجويفه من مزاياه الفلسطينية، وتحويل اتجاهه إلى العكس تماماً، وها نحن نرى رأْي العين ما أوصلنا إليه شارون - نتنياهو حتى في عهد لبيد - غانتس.
الفلسطينيون - أي شعب منظمة التحرير - ذهبوا إلى أوسلو تحت ضغط ظرف موضوعي وذاتي أرغمهم على الذهاب، أما عن الظرف الذاتي والموضوعي اللبناني فحدث ولا حرج، فمع اختلاف الزمان والمكان تتشابه الدوافع لتنتج ما أنتج هنا وهناك، والعبرة ليست في إيقاع البدايات، وهنا يجدر إلقاء نظرة على موقف «حماس» من أوسلو الفلسطينية وموقف «حزب الله» من اللبنانية، هو في واقع الأمر ليس متطابقاً تماماً، إلا أن فيه بعض تماثل يستحق التوقف أمامه.
«حماس» حيال أوسلو الفلسطينية، وبصرف النظر عن التصريحات والبيانات التي قيلت في حينه لحفظ ماء وجه الشعار، التزمت سياسة ألقت فيها بعبء الموافقة على «منظمة التحرير»، ووقفت خلف الباب مانحة نفسها ميزة الحَكَم الذي يقرر مسار المباراة ونتيجتها، مصدّرة بين وقت وآخر إشارات بأنه لولا مقاومتها المسلحة لما تحققت أقل الإيجابيات، مع قول حين اللزوم إنها تملك إمكانات فعلية لقلب الطاولة على رؤوس الجالسين حولها.
التشابه قريب في الاتجاه وطريقة الاستثمار، أما الاختلاف فلن يغير في النتائج شيئاً.
بمنطق علاقات القوى وتأثير الأزمات على خلاصات المواقف والسياسات، فقد كسب لبنان ما وفر له الزعم بأنه حقق كل ما يريد ولو ببعض تحايل حميد، وبذات المنطق يسوّق غانتس ولبيد موقفهما على أنه وفّر فائدة مزدوجة؛ واحدة ذات نكهة انتهازية تخاطب الناخبين بالقول إن ما وفره الاتفاق هو إخراج لبنان من أزماته الطاحنة «اقتصادياً»، وهذا سوف يحرره من التبعية لإيران، أما الثانية فالاتفاق يوفر للخزينة الإسرائيلية مليارات إضافية من الدولارات يدرها «كاريش» وما يتسنى من «قانا».
إجماع اللبنانيين على الترحيب بالاتفاق بصرف النظر عن الإغداق في تعداد إيجابياته، يسجل ميزة نادرة تحققت في بلد ولدى شعب لا إجماع فيه على أي أمر، والأيام المقبلة بتداعيات أحداثها ومفاجآتها سوف تعطينا النبأ اليقين بالإجابة عن سؤال بالغ الأهمية: هل سيبنى على هذا الإجماع أمور أخرى أم ماذا؟
سنرى..