بعد كل هذه السنوات الطويلة من الانقسام، الذي لا يختلف اثنان على أن وقوعه واستمراره، يشكل خدمة صافية للاحتلال، تعود الفصائل إلى الجزائر لتلبية دعوة ومبادرة من الرئيس تبون، وكل منها يعرف مسبقاً النتائج التي ستؤول إليها الحوارات.
القيادة الجزائرية ليست ساذجة، إلى الحد الذي يدفعها لتحمل وزر مبادرة وحوارات، لمعالجة ملف معقد، لم تنجح محاولات كثيرة سابقة في أن تجد له حلاً.
ثمة إحساس لدى القيادة الجزائرية بالمسؤولية القومية، تجاه القضية الفلسطينية وثمة مصلحة أيضاً، في أن تشكل القمة العربية القادمة، فرصة لإعادة الاعتبار العربي للقضية الفلسطينية.
بالإضافة إلى الموقف التاريخي للجزائر، الذي يختار على نحو ثابت وراسخ تبني ودعم الشعب الفلسطيني وقضيته وحقوقه، فإن انزلاق عديد الدول العربية في مستنقع التطبيع، يشكل خطراً مباشراً على الجزائر، وليس فقط على القضية الفلسطينية والمشروع القومي العربي.
حين أقدم النظام المغربي على الانضمام لاتفاقيات أبراهام، وفتح أبواب البلاد، على مصاريعها، نحو تحقيق شراكات اقتصادية وسياسية وثقافية، وأمنية وعسكرية مع الاحتلال، عبرت الجزائر عن سخطها، ومخاوفها إزاء اقتراب الوجود الإسرائيلي من حدودها.
ذلك الحدث، ونقصد تطبيع العلاقات الإسرائيلية المغربية، تضمن شرطاً يقضي باعتراف الولايات المتحدة وإسرائيل، بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، التي تشكل أبرز قضايا الخلاف الجزائري المغاربي منذ عقود ولا تزال.
في مقابل ذلك، اختارت القيادة الجزائرية، الابتعاد عن واشنطن والدول الغربية، فيما يتعلق بحاجتها من الأسلحة، ما عمق حالة الاستقطاب، وأدخل الجزائر مربع الصراع، الخفي غالباً والظاهر أحياناً، مع أطراف التحالف الأميركي الإسرائيلي المغاربي.
وسواء القيادة الجزائرية، أو الفصائل الفلسطينية، فإن الكل كان يدرك مسبقاً، أن ملف المصالحة، أو إنهاء الانقسام لا ينتظر حلاً من الجزائر أو منها، بعد أن فشلت جهود جبارة بذلتها أطراف دولية وإقليمية وعربية وازنة.
نعم الجزائر تحظى بمكانة عظيمة لدى الشعب الفلسطيني وفصائله ونخبه السياسية والاجتماعية وفعالياته، لكن الجزائر لا تملك مقومات التدخل إلى الحد الذي يمكن معه كسر صخرة الانقسام.
في الأصل يدرك الجزائريون، أن إنهاء الانقسام لا يحتاج إلى وساطات وتدخلات، مهما كان وزن تلك الوساطات، وإنما يحتاج إلى إرادة فلسطينية هي فقط التي تستطيع تجاوز العوامل المعطلة للانقسام، بما في ذلك الدور الإسرائيلي المتحفز كل الوقت لإفشال أي مبادرة أو محاولة لإنهاء الانقسام.
ما جرى في الجزائر نتيجة الحوارات الثنائية والجماعية بين الفصائل وبينها وبين القيادة الجزائرية، كان الهدف منه، منح الجزائر ورقة فلسطينية، بشأن إنهاء الانقسام، هي في حاجة إليها لتوظيفها في اتجاه إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية في القمة العربية، باعتبار أن ذلك سيكون العنوان الأبرز في إنجاح القمة.
أما الفلسطينيون، فمن غير المعقول أن يرفض أي فصيل، الدعوة الجزائرية، أو يتعامل معها بخفة ذلك أن كل الفصائل ترغب في توسع علاقاتها ومكانتها لدى الشعب الجزائري وقيادته.
هكذا يبدو الخلاف الذي ظهر على بند تشكيل حكومة وحدة وطنية تلتزم بقرارات الشرعية الدولية، وكأنه مسرحية الهدف منها إظهار شيء من الجدية، إزاء المبادرة الجزائرية، ذلك أن الخلافات حول الورقة التي وقع عليها الجميع، أوسع وأكثر عمقاً من هذا البند.
حين نضع الورقة التي تم التوافق والتوقيع عليها، تحت العين المجردة وليس المجهر سنجد، أن هذه الورقة، لا تقترب حتى من إمكانية أن تشكل خطة أو خارطة طريق لتحقيق هدف إنهاء الانقسام.
الورقة أولاً مجرد مبادئ عامة، لا يختلف عليها اثنان، فهي تتحدث عن أهمية الوحدة، والشراكة، والانتخابات ودخول حماس والجهاد إلى أطرها، ولذلك فإنها تعكس جوهر خطابات الفصائل كلها من حيث المبدأ.
هذه المبادئ تجاهلت الخلاف السياسي، وهو ليس خلافاً على مواقف تكتيكية أو آنية، وإنما خلاف جذري بين نهجين متقابلين أحدهما لا يزال يلتزم بأوسلو، وشروطه، والآخر، يلتزم بنهج المقاومة، ورفض نهج التسوية السياسية، وشروطها وآلياتها وتداعياتها على آفاق الصراع.
وفي الحقيقة فإن الاتفاق على النهج السياسي، مسألة تأسيسية، من حيث إن ما يأتي من خطوات أخرى، إنما يستند إلى ما يمكن أن يشكل قاسماً سياسياً مشتركاً بين كافة الفصائل، خصوصاً حركتي فتح وحماس، والورقة أيضاً، تفتقر إلى تحديد الأولويات أو نقطة البداية لإنهاء الانقسام، وتحقيق الشراكات.
خلال اتفاقات سابقة حول ملف إنهاء الانقسام، قامت الفصائل بتدوير كافة الزوايا، إلى أن وصلت إلى اتفاق لأن تكون البداية من إجراء الانتخابات. وبعد جهد وخلاف حول تزامنها أو تتابعها، جرى الاتفاق وجرى اتفاق غير معلن بين الحركتين الكبيرتين على خوض الانتخابات التشريعية بقائمة موحدة وعلى حصرية ترشيح الرئيس محمود عباس للرئاسة، ولكن الأمر لم ينجح وقد جرى تأجيل الانتخابات إلى أمد غير معروف.
ثم إن الورقة تفتقر إلى الآليات، والجداول الزمنية، والحديث عن إجراء الانتخابات في مدة أقصاها عام، لا يشكل بديلاً مقنعاً لغياب الآليات والجداول الزمنية الدقيقة والملزمة.
وبرأينا فإن هذه الملاحظات وغيرها، والمجال مفتوح أمام المزيد من الملاحظات، هذه كلها مدركة من قبل المواطن الفلسطيني، ولذلك فإن الحوار والورقة، والتصريحات الإيجابية التي صدرت، والمجاملات التي تظهر في وسائل الإعلام، لم تحرك ساكناً لدى المجتمع الفلسطيني، الذي لم يعد يحتمل المزيد من خيبات الأمل، وبات يعرف أنه بعد كل حوار أو اتفاق سيجد نفسه أمام تصاعد الاتهامات والخلافات.