لا نبالغ في القول إنّ "إعلان الجزائر" يمثل إعلان مبادئ، وكل نقطة فيه بحاجة إلى اتفاق جديد، ويمثّل تراجعًا ونسخة مشوهة من الاتفاقات السابقة، خصوصًا اتفاق القاهرة في أيار 2011.
ومن ناحية الشكل، فمن الملاحظ أن المشاركين في الحوار هم الفصائل نفسها التي شاركت في الحوارات السابقة، من دون إضافات نوعية وكمية لا بد منها، خصوصًا من الحراكات والقوائم والشخصيات الاعتبارية وممثلي الشتات والمرأة والشباب.
وتؤشر عدم مشاركة الرئيس محمود عباس في حوار الجزائر على الرغم من انخراط الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في مساعي لم الشمل، إلى عدم توفر النية والجديّة والإرادة، كما أن تشكيل الوفد الفتحاوي من دون أن يضمّ أيًّا من رجال الرئيس فيه مؤشر آخر، فضلًا عن أنّ عدم توصل اللقاءات التمهيدية التي سبقت اللقاء الأخير إلى نتيجة له دلالته هو الآخر.
كما أعطى عدم قيام التلفزيون الفلسطيني ببث وقائع توقيع "إعلان الجزائر" إشارةً مبكرة حول الجدية في تنفيذ ما اتفق عليه، فعدم التغطية يدل على أن الرئيس محمود عباس لا يبارك الاتفاق، على الرغم من توقيع رئيس وفد حركة فتح عليه، بعد حذف بند الحكومة منه، جراء الخلاف على كيفية الإشارة إلى الشرعية الدولية؛ إذ أصرّ وفد "فتح" على صيغة عمومية تسمح بإعطائها التفسير المناسب، الذي يتضمن شروط اللجنة الرباعية الدولية، وطلب الاكتفاء بعبارة تحدد الموافقة على قرارات الشرعية الدولية، من دون إضافات أخرى، بينما رفض وفد حركة حماس وعدد من الوفود الأخرى ذلك، وأصروا على ربط الموافقة على قرارات الشرعية الدولية بتلك التي تدعم الحقوق الفلسطينية، ووافق وفد حركة فتح واحتفل المتحاورون في الاتفاق، وجاء الرئيس الجزائري للمباركة، إلى أن جاء اتصال من الرئيس عباس برفض الصيغة المتفق عليها، وبعد حوار لساعات للاتفاق على الصيغة تم الاتفاق على حذف البند المتعلق بالحكومة.
ما حصل يثبت أن وفد فتح غير مخول، وأنّ الرئيس ليس مجرد شخص أو فريق، فهو صاحب القرار الذي يجمع كل السلطات والصلاحيات بيديه، ويصدر المراسيم بإجراء الانتخابات، وهو الذي يدعو الأمناء العامين للانعقاد، وهو الذي يمثل فلسطين في القمة العربية التي ستبحث في "إعلان الجزائر".
مغزى حذف بند الحكومة
هناك من يقول إن حذف بند الحكومة غير مهم كثيرًا، لأن الأهم هو ما تضمنه الإعلان عن إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية ومجلس وطني حيثما أمكن كل على حدة خلال مدة أقصاها عام، وهذا غير صحيح، فحذف بند الحكومة له مغزى مهم وحاسم، فالحكومة هي التي من المفترض أن تنفذ معظم بنود الإعلان، فهي التي ستوحد المؤسسات، وتنهي الانقسام، وتعالج آثاره، وتحضر وتشرف على إجراء الانتخابات، وتوفّر مقومات الصمود ... إلخ.
كما أن الخلاف على الشرعية الدولية وكيفية تضمينها في الاتفاق يعكس استمرار الخلاف على إستراتيجية العمل السياسي، والموقف من المفاوضات والتسوية، وما يسمى "حل الدولتين"، والموقف من الالتزامات المترتبة على اتفاق أوسلو، بدليل عدم الإشارة إليها، ولو عن طريق التأكيد على القرارات السابقة بشأنها الصادرة عن المجلسَيْن المركزي والوطني، فالأهم عند المبخّرين للاتفاق أن الإعلان تضمن إجراء الانتخابات خلال مدة أقصاها عام، لدرجة أن بعض القادة المتحمسين للاتفاق ادّعوا أنها المرة الأولى التي يتم فيها تحديد مواعيد.
وهذا الأمر غير صحيح، فالاتفاقات السابقة حددت مرات عدة مواعيد وأحيانًا أيامًا محددة لإجراء الانتخابات، بل لقد صدرت في العام الماضي المراسيم بمواعيد إجرائها، وسُجِّلت القوائم الانتخابية لانتخابات المجلس التشريعي، وألغاها الرئيس في اللحظات الأخيرة بذريعة القدس، وهي الذريعة التي يمكن أن تستخدم مرة أخرى ما دام لا توجد نصوص ملزمة تتحدث عن إجراء الانتخابات رغمًا عن الاحتلال؛ حيث تضمن الإعلان عبارة "بما في ذلك بالقدس وفق القوانين المعتمدة"، خصوصًا أن أحوال حركة فتح سيئة، كما يظهر في الخلافات والصراعات، وعدم تحديد موعد للمؤتمر الثامن، وبالتالي فإنّ حظوظها الانتخابية صارت أسوأ؛ ما يعزز بصورة أكبر احتمال عدم إجراء الانتخابات، وتأجيلها إلى أجل غير مسمى.
وهنا، ليس من الواضح ما المقصود في "إعلان الجزائر" بإجراء انتخابات المجلس الوطني حيثما أمكن بعد إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية، فلم تجر انتخابات للمجلس الوطني في السابق حتى يقال وفق القوانين المعتمدة. ففي ظل غياب بند يتضمن تشكيل لجنة تحضيرية لعقد مجلس وطني جديد كما كان يجري في السابق دليل آخر على غياب الإرادة وعدم الجدية؛ لأن المجلس الوطني القديم انتهت مدته منذ زمن، لذا يكون من مهمات اللجنة التحضيرية استكمال البحث في صيغ مشاركة أعضاء المجلس الوطني في التجمعات المختلفة، خصوصًا التي لا يمكن إجراء انتخابات فيها، مثل الأردن وفلسطين الداخل (48) على سبيل المثال لا الحصر.
كان يمكن التخفيف من التأثير السلبي لعدم الاتفاق على بند الحكومة لو تضمن إعلان الجزائر:
أولًا: التوافق على البرنامج الوطني الذي يجسد القواسم المشتركة (الأهداف وأشكال العمل والنضال والمراحل والتحالفات)، وهو مفتاح الوحدة وأساسها، ومن دونه لا يمكن أن تتحقق، ولا معنى لها، خصوصًا أن الاتفاق على البرنامج الوطني يوفر أساسًا قويًا للشراكة، سواء إذا تمكن الفلسطينيون من إجراء الانتخابات أم لا.
وهذا مؤشر مقلق؛ لأن غياب الإشارة إلى الأهداف والحقوق، بما فيها حق تقرير المصير والعودة والاستقلال الوطني، يحدث للمرة الأولى؛ حيث كانت دائمًا هناك إشارة إلى المرجعيات الوطنية، مثل: مقررات اجتماعات المجلسَيْن الوطني والمركزي، ووثيقة الوفاق الوطني، والاتفاقيات الموقعة ... إلخ.
ثانيًا: الاتفاق على صيغة محددة وملزمة حول دور الأمناء العامين، وليس اعتبارها هيئة استشارية كما جاء في مسودة أولى، بل يجب أن تكون لها صلاحيات قيادية؛ حيث جاءت الصيغة حول هذا الأمر في الإعلان مبهمة من دون تحديد صلاحيات قيادية خلال الفترة الانتقالية، خلافًا لما هو وارد في اتفاق القاهرة أيار 2011، من تحديد صلاحيات قيادية لما سمي حينها "الإطار القيادي المؤقت".
مستلزمات إجراء الانتخابات
إذا كان عدم بث التلفزيون الفلسطيني مفهومًا، فما الذي منع تلفزيون الأقصى المحسوب على "حماس" من بث وقائع حفل التوقيع، على الرغم من أن إسماعيل هنية ترأس وفد الحركة، وأشاد بالإعلان، ووصفه بأنه "بمستوى التحديات"، وأن الشعب سيقيم "الأفراح" جراء التوصل إليه. فهنية اعتبر الانتخابات بوابة إنهاء الانقسام، مع أنه يدرك أن لا انتخابات على الأبواب؛ لأن تجربة إلغائها في العام الماضي أضافت سببًا إضافيًا للأسباب التي تمنع إجراء الانتخابات قبل إنهاء الانقسام وتوحيد المؤسسات والوزارات والأجهزة الأمنية الفلسطينية.
إن الانتخابات تحت الانقسام والاحتلال، ومن دون إنهاء الانقسام وتوحيد المؤسسات ضمن توافق على تصور متكامل أساسه الاتفاق على البرنامج السياسي لن تُجرى، وإذا جرت لن تكون حرة ونزيهة وتُحترم نتائجها، وإذا كان عقد مؤتمر "فتح" الثامن متعذرًا جراء الخلافات، فكيف ستذهب "فتح" إلى انتخابات عامة وهي في أسوأ حال، والنتائج ستكون معروفة سلفًا؟!، وإذا وافق الرئيس و"فتح"، وهذا مستبعد جدًا، على إجراء الانتخابات، فلن يسمح الاحتلال بإجرائها، وإذا سمح فسيصادر نتائجها إذا وجدها غير مناسبة، كما فعل في انتخابات 2006. لذا من المهم التوافق على تصور متكامل وطني ديمقراطي لمواجهة مختلف السيناريوهات والاحتمالات، وتوفير القدرة على فرض إجراء الانتخابات؛ لأن الموجة الانتفاضية الحالية وآفاقها المحتملة ليست الوقت المناسب لإجراء الانتخابات.
الرابحون من "إعلان الجزائر"
الرابح أولًا وأساسًا من إعلان الجزائر الاحتلال؛ لأن عدم الاتفاق على إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة على أساس برنامج وطني، وإعادة بناء مؤسسات المنظمة عبر تشكيل مجلس وطني جديد، وتغيير السلطة، وإجراء الانتخابات؛ يصب في صالح استمرار تنفيذ المخططات الاحتلالية التي تستهدف تصفية القضية الفلسطينية من مختلف أبعادها، وخصوصًا المضي في فصل الضفة الغربية عن قطاع غزة، وتقطيع أوصالها، استعدادًا لضم أقسام منها، واستكمال تهويدها، وخصوصًا القدس والمقدسات،
أما الرابح الثاني، وبشكل رمزي يحفظ ماء الوجه ليس أكثر، فهو الجزائر؛ لأن رعايتها للحوار، وهي تستعد لعقد القمة العربية التي تريدها بداية إحياء للتضامن العربي المفقود؛ يعطيها دورًا إقليميًا في القضية الفلسطينية التي لا تزال محورية عند الشعوب العربية، وعند الجزائر رئيسًا وحكومة وشعبًا.
وأما الرابح الثالث فهي حركة حماس؛ لأنها بدت أمام الجميع متحمسة للوحدة، بينما الطرف الآخر بدا مترددًا معرقلًا، وهذا يتيح لـ"حماس" تحسين وضعها الفلسطيني وعلاقاتها بالجزائر، ويزيد من فرص تعزيز الاعتراف العربي والدولي بها، ومن حصولها على حصة من الدعم الجزائري لفلسطين؛ حيث تعهدت الجزائر بتقديم خمسين مليون دولار لدفع مصاريف الوحدة الفورية.
الخاسرون من "إعلان الجزائر"
الخاسر الأول من الفشل الذي عبّر عن نفسه بصورة زائفة من النجاح هو الشعب الفلسطيني وقضيته؛ حيث باتت الوحدة أبعد عن التحقق مع أنها أكثر إلحاحًا في ظل تصاعد العدوان الإسرائيلي في الضفة، واندلاع موجة انتفاضية غير مسبوقة منذ انتفاضة الأقصى، والتطورات الدولية الدراماتيكية الحاصلة والمحتملة.
أما الخاسر الثاني فهو حركة فتح ورئيسها، التي تبدو باستمرار في الآونة الأخيرة خلافًا لحنكتها السابقة بمظهر الحريص على إفشال مختلف مبادرات الوحدة، وهذا سيزيد من تراجعها وتشرذمها.
وأما الفصائل الأخرى فهي تمارس دورها كشاهد الزور في مباركة ما يتم الاتفاق عليه بين حركتي فتح وحماس، والمراوحة بين لعب دور الوسيط الذي يضخم دوره ويحرص على البقاء تحت الأضواء، أو دور سيارة الإسعاف والإطفاء، أو تحميل طرف أو طرفي الانقسام المسؤولية عن استمرار الانقسام، وإعفاء نفسها من المسؤولية.
من المسؤول عن استمرار الانقسام؟
يتحمل الرئيس المسؤولية أولًا عن استمرار الانقسام؛ كونه صاحب القرار والمعطل لمبادرات الوحدة، كما تتحمل حركة فتح المسؤولية ثانيًا؛ لأنها تبدو مسلوبة الإرادة، وتتحمل حركة حماس المسؤولية ثالثًا؛ لأنها نفذت "الانقلاب/الحسم"، ولأنها تعطي الأولوية لاستمرار سيطرتها الانفرادية على قطاع غزة؛ حيث أصبحت المقاومة ثانيًا وتستخدمها لخدمة حاجات السلطة، لذا تسود في الضفة معادلة "التنسيق والتعاون الأمني مقابل ما يسمى السلام الاقتصادي"، وفي القطاع معادلة "تهدئة مقابل تسهيلات واقتصاد وعمال"، في حين إنّ معركة سيف القدس التي وحدت القضية والأرض والشعب بدت حالة منفردة لم تتحول إلى استراتيجية جديدة، كما يدل أن "حماس" وبقية الفصائل تغطي وتدعم ثورة الضفة الحالية ولا تقودها، مع تجميد المقاومة المسلحة الفصائلية في الضفة؛ لأن قيادتها وتنفيذ عمليات مسلحة يمكن أن يؤدي إلى مواجهة عسكرية في غير أوانها، وتترتب عليها أثمان باهظة، بينما تريد "حماس" وحدة تبقي القطاع تحت سيطرتها، وتمكّنها من دخول المنظمة والاحتفاظ بمكاسبها وبسلاح المقاومة من دون استراتيجية موحدة وقيادة واحدة.
وإن لم يكن الأمر كذلك، فلماذا لا تغادر "حماس" الانتظار والتذبذب بين إدانة الرئيس و"فتح" تارة، والاتفاق معهما تارة أخرى؟ ولماذا لا تقدم تصورًا متكاملًا، وخطة عملية لإنهاء الانقسام تضمن الشراكة، وتحفظ وحدانية التمثيل للمنظمة، مع ضرورة إعادة بناء مؤسساتها، بما يضمن إنقاذ القضية والشعب والأرض؟
فإذا وافق الرئيس و"فتح" على ذلك فأهلًا وسهلًا، وإذا لم يوافقا تتم بلورة مظلة وطنية من كل الحريصين على الوحدة والمقاومة والشراكة والانتخابات، تقوم بفرض الوحدة ميدانيًا، ومن أسفل إلى أعلى، ومن أعلى إلى أسفل، كلما وأينما أمكن ذلك، إلى أن يتم إقناع أو إجبار الرئيس و"فتح" على الانضواء فيها أو تتجاوزهما الأحداث؛ حيث يمكن أن يجري في هذا السياق إحياء المشروع الوطني الموحد وتغيير السلطة واستعادة المنظمة لكي تؤدي دورها الوطني بوصفها ممثلًا شرعيًا وحيدًا للشعب الفلسطيني.
الفصائل والحراكات والشخصيات بين التبرير والتبشير
بعد ذلك، تتحمل الفصائل والمؤسسات والحراكات والشخصيات المستقلة المسؤولية، التي تبرر عجزها، أو تبشر بالمستقبل الواعد، أو تسير وراء الخرافات والنبوءات، ولكن لا تفعل شيئًا في أحيان كثيرة سوى الانتظار، أو لعب دور الوساطة في موضوع هي فيه شريك لا وسيطًا، أو لعن طرفي الانقسام أو طرف دون آخر، أو نعي الحركة الوطنية بكل مكوناتها من دون تقديم بديل ولا ضرب المثل.
إنّ ما يجري في الضفة يدل على أن الشعب شرع في أخذ زمام المبادرة، ويقرر مصيره بنفسه، ولكن هذه عملية طويلة وبحاجة إلى وقت ومراحل، بعد أن تخلّت المرجعيات الوطنية كلها بأشكال متفاوتة عن دورها، وخلقت فراغًا كبيرًا، إن لم يملأه الشعب سيملأه الاحتلال وأدواته وعملاؤه ومخططاته، بمساعدة من لاعبين آخرين فلسطينيين وعرب وإقليميين ودوليين، بما يؤذن بعودة الوصاية والاحتواء والبدائل.
هناك أمل إذا كانت هناك إرادة
على الرغم مما سبق، يمكن مواصلة الجهود لإنهاء الانقسام مسلحين بثورة الضفة التي تتطلب الوحدة، وبصمود غزة، وبتمسك الشعب بقضيته وحقوقه، وموظِّفين الدور الجزائري الذي تعهد بطرح الأمر على القمة، شرط ألا يكتفي بما جاء في "إعلان الجزائر" وبمباركة ما يتم الاتفاق حوله، بل يساعد على رفع سقفه، وتكامل الدورَيْن المصري والجزائري من أجل تطوير الموقف والدور العربي، وأدوار الأصدقاء وكل الحريصين على بقاء القضية حية وسيرها على طريق الانتصار.