مرّت دولة الاحتلال خلال العقود السبعة من تاريخ قيامها بمراحل مفصلية غايةً في الحساسية والمصيرية، بكل ما في هذه الكلمة من معنى.
ومرّت دولة الاحتلال في انتخابات سياسية فاصلة غيّرت من مسار هذه الدولة، وأحدثت فيها من التحوّلات ما غيّر كثيراً في هذا المسار.
حدثت جرّاء الانتخابات ونتائجها في تلك المراحل، ومن مقدماتها قبل تلك النتائج انقلابات في المشهد السياسي الإسرائيلي أدّت في نهاية المطاف إلى الواقع المركّب الذي نشهد فصوله المتوالية.
في منتصف الستينيات، حصلت عاصفة سياسية، وجرت انشقاقات داخل "معسكر اليسار"، وتراجع دور بن غوريون، واستمرت التصدّعات السياسية والاجتماعية إلى ما بعد حرب حزيران وصولاً إلى أوّل انقلابٍ كبير في المشهد السياسي والحزبي عندما فاز "اليمين" الإسرائيلي بقيادة مناحيم بيغن العام 1977، وبدأ بالفعل هذا "اليمين" باستراتيجيّة "أرض إسرائيل الكاملة"، وما تبعها من هجمات استيطانية "جماعية"، وبات "الحلّ" المطروح هو "الحكم الذاتي" على السكان الفلسطينيين، وتمّ الإعلان عن هذه الاستراتيجية صراحةً بعد "كامب ديفيد".
بعد أن تمّ إخراج مصر من دائرة الصراع العسكري مع إسرائيل، وبعد أن شهدت الأرض الفلسطينية المزيد من الهجمات الاستيطانية طوال عقد الثمانينيات، وبعد حرب "الخليج الثانية" وقبلها اندلاع الانتفاضة الوطنية الكبرى كردٍّ فلسطيني استراتيجي على اجتياح لبنان، وإخراج قوات الثورة منها خرج اليمين الإسرائيلي من "محطة" (مؤتمر مدريد) باستراتيجية جديدة قوامها التفاوض لعشرين سنة قادمة دون التخلّي عن شبرٍ واحد من الأرض، وتحويل شعار "الأرض مقابل السلام" إلى "السلام مقابل السلام والأمن" والتمسك بـ"الحكم الذاتي" في إطار الهيمنة الإسرائيلية على كامل الأرض، وحدودها ومواردها وثرواتها وأجوائها وكل ما فوقها وما تحتها.
وحتى عندما عقدت إسرائيل "اتفاقيات أوسلو" مع المنظمة، بعد أن عاد "اليسار" و"الوسط" للحكم في بداية التسعينيات، ولم يتمكن من "إقرار" تلك الاتفاقيات إلّا بالصوت العربي، فقد رفضت بصورة باتّة وقف الاستيطان، وحرصت كل الحرص على عدم اشتراط قيام دولة فلسطينية، و"أجبرت" المفاوض الفلسطيني على "الحلول" المرحلية والانتقالية لكي تُبقي كامل الأوراق في يدها، ولكي تنقضّ على كل حلٍّ من شأنه أن يؤدي إلى حصول الشعب الفلسطيني على أيٍّ من حقوقه الوطنية.
أقصد أن "اليسار" و"الوسط" لم يخرج على استراتيجية "اليمين" من حيث الجوهر، وإنما خرج على أسلوب "اليمين" في إدارة الصراع لكي يحقق نفس الأهداف.
وقد تبيّن، الآن، أنّ هذا "الحلّ" ليس حلّاً "يمينياً" أو "يسارياً" أو "وسطياً" بقدر ما هو الحلّ الذي انتهى إليه المشروع الصهيوني، وهو حلّ "الدولة" وليس حلّ الحكومات، وهو حلّ يكرّس "نجاح" المشروع الصهيوني على المشروع الوطني الفلسطيني، وليس هناك في إسرائيل، اليوم، من يخرج عن هذا الحلّ إلّا في الشكل، أو المسمّيات أو الشعارات، باستثناءات هامشية وثانوية من زاوية الفعل والتأثير في المعادلة الحزبية والسياسية في إسرائيل.
ولأكثر من عقدٍ كامل، حاول نتنياهو أن "يُنهي" هذا الصراع ويكرّسه بصورة لا عودة عنها، وسقط قبل أن "يُنجزه"، وجاء "الوسط" و"اليسار" وبعض مكوّنات "اليمين" ليستكمل نفس المهمة من خلال استراتيجية تقليص الصراع وإدارته بدلاً من حلّه، وها هو يفشل بأضعافٍ مضاعفة عن فشل نتنياهو، ولم يتكرّس الحلّ الإسرائيلي، وهو أبعد اليوم ما يكون عن أن يكرّس في الواقع.
تكرّرت الانتخابات في إسرائيل لأربع مرات، وها هي للخامسة خلال أقل من ثلاث سنوات، وكان يُقال في كل مرة، إنها انتخابات مفصلية وحاسمة ومصيرية.
لم تكن مصيرية ولا حاسمة ولا حتى مفصلية بدليل أنها تكرر من أجل حسم لا يتم، وبهدف تحديد المصير دون أن يُحدّد، ولم تفصل الانتخابات السابقة في أيّ اتجاه حاسم أو مصيري على أيّ صعيد.
كانت الانتخابات الإسرائيلية في المراحل المختلفة تحتوي على بعض الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية وحتى الثقافية في بعض المراحل، وخصوصاً في نهاية الستينيات، وانطوت بصورةٍ خاصّة على مثل هذه الأبعاد في بعض فترات السبعينيات والثمانينيات، إلى أن بدأت تختفي تماماً من المشهد الانتخابي بدءاً من التسعينيات، وحتى يومنا هذا.
خلال أكثر من عقدين كاملين، غلب على المشهد الانتخابي "القضايا السياسية الكبرى"، وخصوصاً الأخطار "الوجودية" و"القومية" وقضايا الحقوق "القومية للشعب اليهودي" على أرض الشعب اليهودي، كما غلب عليها، أيضاً، الصراع الداخلي على خلفية الفساد الذي بات سمةً بارزة من سمات الطبقة السياسية في إسرائيل، وطال الجيش والمؤسسات الأمنية ووصل إلى القضاء وكل منظوماته.
واستُخدمت للتغطية على كل هذه القضايا إيران "كخطر" محدق بإسرائيل، وكذلك "حزب الله" في لبنان، و"حماس" وبقية الفصائل المسلّحة في قطاع غزة.
ويأتي السؤال في ضوء ذلك كلّه:
إذا كان هناك، اليوم، من صراعٍ داخليّ فهو ليس على "الحلّ" السياسي، وليس على التعامل مع حكم "حماس" في القطاع، وليس على "الخطر" الذي يمثله البرنامج النووي الإيراني، لأن هناك ما يشبه الإجماع على كل هذه القضايا.. فلماذا، إذاً، يصف "الخبراء" الإسرائيليون هذه الانتخابات بأنها مصيرية؟ ولماذا هذه الانتخابات بالذات قد تُحدث زلزالاً سياسياً في إسرائيل؟
إليكم الأسباب وهي مستوحاة من الرؤى الإسرائيلية نفسها. وصل "اليمين" المتطرف في إسرائيل إلى الحدّ والمستوى من الاستعداد التام، وغير المشروط إلى "التضحية" بالنظام "الديمقراطي" إذا تطلّب الأمر، والانتقال إلى تحويل كامل هذا النظام إلى مجرد ديكور سياسي مفرغ من أيّ محتوى، بل والانقضاض على هذا الديكور نفسه إذا تم "المسّ" بالاستيطان، أو المستوطنين، أو إذا تم "المسّ" بـ"أرض إسرائيل الكاملة" تحت أيّ ظرفٍ من الظروف.
ووصل "اليمين" الإسرائيلي المتطرف في شقّيه الديني والقومي ذو النزعة الفاشية السافرة إلى حدّ الاستعداد لتحويل الصراع ضد الشعب الفلسطيني إلى صراع ديني مكشوف قد يؤدّي إلى انفجار الإقليم كلّه، ويطيح، بل ويحرق الأخضر واليابس.
كما وصل هذا "اليمين" إلى "قناعات" راسخة بضرورة تغيير كامل منظومة القضاء، ونُظم التعليم والثقافة بمجرد استيلائه على الحكم، وعند أي فرصةٍ سياسية مناسبة.
يقود نتنياهو هذا النهج والتوجّه من خلف "الصهيونية الدينية"، وهو مستعد أن يُقوّي هذا الاتجاه، حتى ولو كان ذلك على حساب "الليكود" نفسه، بهدف "خوض" هذه المعركة مباشرة بعد "نجاحه" في هذه الانتخابات.
كما أن هذا الاتجاه سيفتح موضوع "الحلّ" السياسي على الترحيل وعلى قمع الأقلية الفلسطينية في داخل أراضي الـ48، وربما افتعال أزمة مع العالم كلّه حول البرنامج النووي الإيراني وتوريطه في حربٍ مدمّرة.
وإذا فشل نتنياهو فليس هناك من ضمانةٍ ألا يتمّ اللجوء إلى وسائل "غير سياسية" لخلط الأوراق في إسرائيل، حتى ولو تم انشقاق وتصدّع "الليكود".
أي أن إسرائيل ستدخل في أزمةٍ سياسية من طرازٍ جديد، عنوانها ليس الصراع على السلطة فقط، وهدفها ليس النجاح في الانتخابات فقط، وإنما أزمة تحمل في طيّاتها وجهةً جديدة ومسارا جديدا سيحدث موضوعياً، وبصرف النظر عن الكثير من المعطيات التي تكرّست في إسرائيل نحو زلزالٍ داخلي غير مسبوق في كامل تاريخها.
الصراع في إسرائيل لم يعد على من يُشكلّ الحكومة، وإنما على من يتحكّم بمصيرها ومسارها ووُجهتها، وليس على مجرّد الحكم فيها.
وبهذا المعنى، ستدخل إسرائيل في أعلى مرحلةٍ من مراحل أزمة المشروع الصهيوني، والتي هي مرحلة ما قبل السقوط التاريخي للمشروع الصهيوني على الأرض الفلسطينية.