تنفست إسرائيل الصعداء، أخيرًا انتهت مطاردة عدي التميمي، أجهزة أمن الدولة النووية تحتفل.. فقد تمكنت أخيراً من قتل شاب فلسطيني، إنها حالة مثيرة للسخرية تشبه كل شيء باتت تقدمه الدولة، وهي تجر مزيداً من الدم بعقلها الذي لم يعد يرى حلولاً لكل المشاكل سوى القوة كحل وحيد رغم تكرار كل تجارب الفشل.
منذ احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة لم تتوقف حالة المقاومة الفلسطينية والملاحقة الإسرائيلية، يكون للمقاومة أسماء متعددة من مجموعات جيفارا وصولاً إلى «عرين الأسود» وما بينهما وتخدع إسرائيل نفسها عندما تقوم بعملية اعتقال أو اغتيال أو إنهاء ظاهرة ظناً منها أن الأمر انتهى، دون أن تقرأ تاريخ الشعوب ومسار الثورات التحررية التي انتهت على طاولة مفاوضات، وكادت تصل لها إسرائيل في اللحظة التي وفر لها التاريخ نافذة فرصة أغلقتها بعقل القوة بسرعة لتعود الى ارثها المسكون بالقوة.
منذ مطلع العام والضفة تشتعل. ظنت إسرائيل أن الأمر انتهى وأن الفلسطينيين تم إقناعهم بالتعايش مع الاحتلال لتنفجر الأزمة دون أن تتوقف أمام أسبابها السياسية والاجتماعية، ومن يتابع النقاش الحالي في الدوائر الأمنية والسياسية والذي لا يفكر سوى بكيفية القضاء على الظواهر المسلحة بالقوة وبالجيش وبسور واق جديد واستخدام الطائرات يدرك أن إسرائيل تعيد تكرار الفشل.
هذا النقاش يخلو تماماً من أي ذكر للسياسة أو حلول حقيقية لصدام طبيعي تنتجه الحالة الراهنة، حيث تغيب السياسة تماماً عن الحلبة السياسية أو برامج الأحزاب. ومنذ سنوات لم يعد أحد يتحدث بها، لذا استغرب بعض الإسرائيليين اشارة لابيد الهامشية جداً لحل الدولتين في خطابه بالأمم المتحدة بل وللسخرية ووصفوه بالعودة الى ماض قديم. هذه هي إسرائيل بطبعتها القديمة الجديدة.
لماذا تتنافس الأحزاب على استخدام القوة؟ لماذا يتسابق السياسيون وليس فقط قادة الجيش على الاستقواء؟ رغم أن دور السياسي هو البحث عن حلول، هذا يعني أن ليس هناك حل سوى القوة والهجوم والقتل، وحيث لا يبرز أي أفق سياسي، ولن تنتهي حالة رفض الاحتلال بتعبيراتها وظواهرها التي تنشأ نشوءاً طبيعياً كرد فعل. هذا يعني أن الحالة ستستمر لعقود قادمة وأن إسرائيل ستعيش على السيف للأبد.
مأساة إسرائيل أن هذه الثقافة ليست حكراً على السياسيين وليست مادة للتنافس، بل هي انعكاس لثقافة مجتمع بات أكثر تطرفاً من سياسييه الذين يغازلون المزاج العام السائد، فالمرض موجود في المجتمع الإسرائيلي بكل أطيافه وما السياسيون سوى تلخيص مكثف عن تلك الثقافة، ثقافة السيف والبلطجة، وحين تمرض الشعوب يصبح علاجها صعباً بدرجة كبيرة ولا يصلح معها العلاج سوى بالصدمة.
أتذكرون شعار «دعوا الجيش ينتصر»؟ هذا كان شعاراً شعبياً في فترة ما عندما كان الشارع الإسرائيلي يتهم سياسييه بأنهم يكبلون الجيش ويضعون القيود ولا يدعونه يمارس رغبتهم، ماذا يعني ذلك؟ إنه نفس السبب الذي يدفع المتطرفين وأعداء السلام الى صدارة المشهد السياسي. فنتنياهو وبن غفير هما نتاج طبيعي للمجتمع ومن الخطأ الاعتقاد أن الأزمة مع حزب ما أو مع زعيم ما، فالأزمة أكثر عمقاً وباتت تلاحق كل من يطالب بإيجاد حلول مع الفلسطينيين، تهزمهم في الانتخابات وتلاحق الكتّاب والمثقفين. وهناك نموذج الكاتب جدعون ليفي الذي وضعت له الدولة منذ عام 2014 حراسة شخصية تحميه من تطرف المجتمع، فهذا نموذج لثقافة شعب يعيش بجوار الفلسطينيين، وأين تكمن أزمة الصراع وكم سيستمر هذا الصراع بثمنه الدامي لأن هناك من قرر أن يعيش على السيف للأبد؟
عشرة أيام تبقت على الانتخابات الإسرائيلية، من يتأمل النسب والأرقام يحتاج لأن يقرأ إسرائيل من جديد. فالأرقام التي تُعطى للأحزاب والتي تمثل الشارع الإسرائيلي لا تبشر بخير للمنطقة ولم تعد تقتصر على حزب أو حزبين، فقد امتلأت الخارطة السياسية بالمتصلبين والمتطرفين وبات التنافس على أيهما أشد تطرفاً وأيهما أكثر قوة وأيهما قادر على الانتصار وأيهما قادر على إطلاق الجيش. هكذا يبدو المشهد بين المتنافسين، فالحكومة ووزير دفاعها يتحدثون عن انتصارات على الشبان والمعارضة تزور مسرح العمليات وتتهم الحكومة بالضعف. وهكذا تتم التغذية والشحن في دائرة مستمرة لم تتوقف منذ خمسة عقود ونصف هي عمر الاشتباك المباشر بلا توقف منذ أكملت إسرائيل احتلالها وسيطرتها على الشعب الفلسطيني.
كيف لدولة تستمر في تكرار نفس التجربة لخمسة وخمسين عاماً وفي كل مرة تنتظر نتائج مختلفة؟ على المستوى الفردي ببساطة يمكن لعلماء النفس أن يصفوا الحالة بالمرض إذا ما فعلها شخص، ولأن الدول هي تجمع سيكولوجية أفرادها لا يمكن وصف دولة إسرائيل وشعب إسرائيل سوى بالمريض، مريض بالقوة واستعمالها، مريض بالعنف وممارسته ضد شعب آخر، وهذا المرض يتفشى مع الزمن ويظهر على شكل طفح مع كل جولة انتخابية ومع كل تصريح لسياسي ومع كل خلاف بين حزبين، ولأن لا حل مبكراً فقد تحول المرض إلى مزمن، فما العمل؟
لا حل في القريب، ستستمر دائرة الدم وستتسع لأن أسبابها كامنة في عمق الواقع، ومعادلة الهدوء أصبحت صعبة بين شعب يريد الانعتاق وشعب يصر على حكم شعب آخر بالقوة المسلحة، وحين يصدمه الواقع صدمات خفيفة ببساطة يستل شعاره المخدر «دعوا الجيش ينتصر» ما هذا؟