بينما كنت أفكر في اختيار موضوع مقالتي، استمعت إلى الخبر الأول الذي بثته الإذاعة الإسرائيلية، والذي تمت صياغته وقراءته على طريقة جاءنا الآن ما يلي..
«إن قوة مشتركة من جميع أجهزة الأمن الإسرائيلية تمكنت من اعتقال أحد النشطاء البارزين في التشكيل الفلسطيني الجديد... عرين الأسود».
منذ بدء الأحداث العنيفة التي وقعت بداية في مخيم جنين وامتدت إلى نابلس والشمال، واتسع امتدادها ليشمل الوسط والجنوب، تردد مصطلح «عرين الأسود» على نطاق واسع، حتى أنه غطى بفعله وما يقال عنه على حوارات لمّ الشمل التي جرت في الجزائر؛ ما جعل هذا التشكيل الجديد أهم حديث على مستوى الرأي العام، حتى قيل ولو من قبيل التندر إنه أحال فصائل منظمة التحرير إلى التقاعد.
من الخصائص المستنتجة من هذا التشكيل الجديد، أنه تجسيد تنظيمي أولي لمن كانت إسرائيل تسميهم الذئاب المنفلتة، الذين كانوا يقومون بعمليات عسكرية مؤثرة ولكن على عاتقهم الخاص، فهم ليسوا امتداداً لتشكيل تقليدي منظم، وليسوا موحدي الانتماء لفصيل محدد ما وضع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بكل أذرعها في حيرة من أمرها؛ إذ لا مرجعيات محددة يجري الاتصال بها أو الحديث معها لمعالجة الظاهرة واحتوائها. وما زاد الحيرة الإسرائيلية وأظهر عجز أجهزتها الأخطبوطية عن التبشير بإنجاز حاسم بشأنها أن ما كانت تسمى الذئاب المنفلتة تطورت لتصبح تشكيلاً منظماً أسسته فكرة. وشكّل الفراغ الأمني والسياسي في الضفة والقدس حاضنة مواتية وفّرت له شعبية غير متوفرة لأي فصيل تقليدي.
وحاضنة كهذه تخيف إسرائيل؛ إذ إنها محفز نشط لتطور التشكيل ومضاعفة فاعليته ولو بالتقليد والمحاكاة.
أنتج الفراغ حالة حرب متقطعة ومتفاوتة الحدة بين الفلسطينيين والإسرائيليين؛ فالاجتياحات الإسرائيلية تتواصل وتنتج تنكيلاً مروعاً في حياة الفلسطينيين، مدن كبرى كنابلس تحت الحصار، ومخيم كبير كشعفاط داخل طوق محكم يجعل الدخول إليه والخروج منه عذاباً لا ينجو منه أحد. والمكان الذي لا يُحاصر ولا تغلق مداخله ومخارجه في عموم الضفة؛ فالمداهمات الليلية والنهارية كفيلة بتحويل الحياة فيه إلى جحيم مستمر.
وضع كهذا ينتج رد فعل يجعل من السعي الإسرائيلي لاجتثاثه نوعاً من الجري وراء السراب، وهذا ما اعترف به كثير من جنرالات إسرائيل ومثقفيها وصناع الرأي العام الذين لا يكفّون عن تذكير القيادة السياسية بأن مواصلة حكم شعب آخر لن ينتج غير هذا.
العجز الإسرائيلي عن إنهاء الظاهرة أو احتوائها يبرر بعذر أقبح من ذنب، فالحكومة التي تتعرض لانتقادات لاذعة على الفشل والتقصير تلقي باللوم على السلطة الفلسطينية التي لا تقوم «بواجبها» في سياق التنسيق الأمني ولا تكف عن القول بأنها سلطة فاقدة للسيطرة مع أن فقدان السلطة لأبسط مبرر لوجودها هو من صنع إسرائيل ذاتها، التي ما تركت وسيلة لإذلال السلطة وإفقادها هيبتها أمام مواطنيها إلا وفعلته، وآخر ما حرر في هذا الأمر أن الحكومة الإسرائيلية وجهت للسلطة الفلسطينية رسالة توبيخ شديدة اللهجة لمجرد زيارة رئيس وزرائها محمد أشتية بيت عزاء كان يوجد فيه «إرهابيون»!
إسرائيل لا تنكر عجزها، والفصائل تجاهر بحيادها في الحرب الدائرة الآن؛ إذ يكتفي بعضها بمباركة العمليات من دون تبنيها. والسلطة واقعة بين شقي الرحى، فلا هي جاهزة لتطوير أدائها الأمني على النحو الذي يرضي إسرائيل، وبالمقابل يضاعف سخط شعبها، ولا هي بمنأى عن دفع الأثمان المادية والمعنوية الناجمة عن التنكيل الإسرائيلي بها وبشعبها.
وضع كهذا تعترف إسرائيل بما ينتج منه، فما كان يسمى بالأمس القريب الذئاب المنفلتة صار يسمى اليوم عرين الأسود، وبدلاً عن أن تستوعب إسرائيل الدرس الذي عمره عشرات السنين والتي هي عمر الرفض الفلسطيني للاحتلال ولكل الصيغ المعتمدة لإدامته بما في ذلك الرشى الساذجة، تواصل صبّ الزيت على النار لتزيده اشتعالاً أو لتكثف جمره الكامن تحت الرماد.
كلمة السر في العجز الإسرائيلي تفصح عنها عبارة يزداد معتنقوها في إسرائيل كل يوم.. إلى متى سنواصل حكم شعب آخر؟!