مرة أخرى، مارس أعضاء البرلمان البريطاني هوايتهم المتكررة بالإطاحة بالزعماء. وكانت ضحيتهم الجديدة أحدث رؤساء الوزارات ليز تراس التي جاءت بكل هذا الاندفاع والحماس لينكسر سيفها على عتبة البرلمان قبل أن تخوض معركتها الأولى، وهي التي حلمت بهذا المنصب منذ كان عمرها ثماني سنوات عندما تقمصت في مسرحية مدرسية دور رئيسة وزراء ثمانينيات القرن الماضي القوية مارغريت تاتشر.
سيغلق باب الترشح، غدا، لمن سيخلف المرأة التي أرادت أن تكون الحديدية قبل أن تكتشف أنها أخف من أن تصمد أمام رياح السياسة البريطانية العاتية وعواصفها. فقد جاءت المرأة وسط زوبعة لم تشهدها الجزيرة البريطانية منذ عشرات السنين، سيغلق الباب وسط أزمة شديدة لحزب المحافظين تعكسها رغبة بعض أطراف الحزب بعودة رئيس وزراء تم خلعه للتو من قبل الأعضاء أنفسهم وهو بوريس جونسون الذي استدعته اللحظة على عجل من إجازة عائلية في الكاريبي يمارس تقاعده السياسي بعد أن «خانه الرفاق الذين صفقوا له طويلا».
التاريخ السياسي لبريطانيا يقول، إن هناك ما يشبه الهواية لدى الأحزاب البريطانية تتمثل بإسقاط رؤساء الوزارات. فالمحافظون الذين احتكروا السلطة منذ العام 2010 هم من أطاحوا بالأربعة الذين ترأسوا حكوماته: ديفيد كاميرون وتيريزا ماي وبوريس جونسون وليز تراس، وجاءت الإطاحة بالأخيرة بعد استطلاعات الرأي التي سحقت حزب المحافظين الذي يسيطر بالأغلبية على البرلمان بواقع 326 عضوا من أصل 650 هم عدد أعضاء المجلس.
بعد خطتها التقشفية وبدايتها المتعثرة، كانت الاستطلاعات تعطي للحزب 20 مقعدا فقط وهو لا يعني تراجع الحزب فقط بل بدء التحضير لمراسيم الجنازة لحزب تاريخي تأسس العام 1832 وبالتالي أضيئت كل الأضواء الحمر لدى أعضاء البرلمان وقادة الحزب ليس فقط لأن الأمر ينذر بإبعاد الحزب الساكن في 10 داوننغ ستريت منذ أكثر من عقد يمسك بمفاصل الدولة ويتحكم بسياساتها الداخلية والخارجية، بل يهدد كل أعضاء البرلمان تقريبا بعدم انتخابهم وإحالتهم لمخازن التاريخ. ومن هنا، جرت العادة أن يبدأ أعضاء الحزب الحاكم بإجراءات الإطاحة برئيس الحزب وهو تلقائيا رئيس الوزراء حين تضعف شعبية الحزب بين دورتين انتخابيتين.
أقوى شخصيتين في نصف القرن الأخير اللتين فازتا باكتساح وحملتا حزبيهما للنصر هما مارغريت تاتشر من المحافظين وتوني بلير من العمال. وقد بقي كل منهما في السلطة أكثر من عشر سنوات وهذا لم يشفع لهما من الإطاحة على يد حزبيهما. لكن إطاحة تراس تعد سابقة في التاريخ البريطاني، فقد أتت بعد شهر ونصف الشهر من الحكم محطمة رقما قياسيا جديدا في السقوط وهي لن تستمر أكثر من أسبوع إلى أن يتم انتخاب خليفة لها. وواضح أن ثلاثة مرشحين يتقدمون للمنافسة: بوريس جونسون الذي لم يكمل إجازة الإطاحة به وريتشي سوناك الذي سقط أمام تراس وكذلك المرأة التي كانت قد سقطت مبكرا في المنافسة الأخيرة بيني مودرنت وزيرة العلاقة مع البرلمان.
الأرقام الصادمة للمحافظين تعكس رغبة البريطانيين بإيقاع أشد العقوبات على الحزب الذي أدت قيادته للوصول إلى النتائج الحالية. فالأزمة تتدحرج في الجزيرة منذ سنوات وهم من يتحمل مسؤوليتها فقد أدخلوا بريطانيا في حالة من التيه على أكثر من صعيد. وتجلت تلك الحالة بتراجع قيمة الجنيه الاسترليني والاقتصاد والاضطراب السياسي الذي تشهده الدولة. صحيح أن هناك عوامل خارجية باغتت بريطانيا أثناء ولاية حكم المحافظين، منها جائحة كورونا التي أحدثت شللا في الدولة وتباطؤا في الاقتصاد وكذلك الحرب الروسية الأوكرانية التي أدت إلى ارتفاع جنوني لأسعار المواد الغذائية والاستهلاكية وارتفاع أسعار الطاقة، لكن هناك دورا لا يقل للحزب الحاكم في تضخم الأزمة سواء في طبيعة سياسات الصرف والإنفاق وخططه الاقتصادية.
ويتحمل حزب المحافظين كل التداعيات السلبية لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وهو البرنامج الذي أعطاهم تفويضا جديدا للسلطة قبل ثلاثة أعوام بعد أن كان مبرر وجودهم ينتهي مع نهاية ديفيد كاميرون، وتوسع حزب العمال بعد حضور جيرمي كوربن واقترب حينها العمال من السلطة لولا رفع المحافظين شعار الخروج من الاتحاد الأوروبي كوسيلة وحيدة لاستمرار البقاء في مقر رئاسة الحكومة. ولكن الوضع الاقتصادي ظل يتراجع إلى الدرجة التي باتت الدولة تشهد فيها إضرابات في كل القطاعات نتاج تردي الأوضاع المعيشية وضعف القدرة الشرائية وتآكل الأجور لتدخل السياسة البريطانية في فوضى إلى درجة التي دفعت المحافظين إلى التخلي عن عقيدتهم الاقتصادية بتقليص دور الدولة في الاقتصاد والعودة لتدخل الدولة، وهي جزء من الفوضى التي باتت المشهد الطاغي في بريطانيا.
تلخص فوضى الإطاحات والانتخابات غياب قيادة تاريخية للحزب التاريخي، وإن كانت هذه تعتبر أحد مظاهر أزمة المحافظين لكنها تزيد من تعميق مأزق الحزب والأزمات التي باتت تحاصر المواطن البريطاني الذي يجلس منتظرا لحظة العقاب لقيادة أودت به إلى هذا القدر من الاختناق التي أعادت لحزب العمال مناطق تاريخية بل بات يستولي على مناطق محسومة تاريخيا لخصومه.
ملاحظتان على الهامش: الأولى، إن كل هذه الفوضى في الطبقة السياسية والتي تشبه الفوضى السياسية في إسرائيل لم تُخِل أو تؤثر على عمل الدولة والمؤسسة وكأن شيئا لم يكن، أليس في هذا ما يمكن الاستفادة منه في الدول العربية التي يهتز فيها الحكم فتسقط الدولة وكل المدن وتبدأ حفلة الدم ويسقط كل شيء. ومن سخرية الدول العربية هناك سؤال دائم وسيناريوهات جدا مهمة تسأل ماذا بعد مغادرة الزعيم؟ وتلك وحدها عنوان للخيبة.
الثانية، مع مغادرة تراس تكون إسرائيل قد تلقت ضربة للمرة الثانية بعد تغير الموقف الأسترالي من نقل السفارة إلى القدس ورحيل المرأة التي تركت كل الأزمات تعصف ببلدها، ولم تجد لها عملا غير نقل السفارة البريطانية إلى القدس، واضح أنه أفضل للبريطانيين أن ترحل مبكرا واستبدالها بمن يعمل لهم فقط.