الكوفية:سألتني حفيدتي سارة التي تواظب على قراءة كتبي، لماذا يحتل ياسر عرفات مكان المركز في جميع مؤلفاتك؟؟
أجبتها لأنه يحتل مكان المركز في حياتنا..
ونحن الآن في ذكرى غيابه نجد أنفسنا بأمس الحاجة لتذكره.. ذلك أن الرجل كان صاحب أطول عمر قضاه على القمة فإن أرخّنا له منذ إطلاق رصاصة الثورة الأولى، فعمره أكثر من نصف قرن، ومنذ ذلك اليوم ظل الرجل صاعدا بلا توقف او إعاقة حتى بلغ القمة واستقر عليها بما يزيد عن أربعة عقود.
لم يكن طول عمر قيادته هو السبب الأهم في احتلاله مكان المركز في حياتنا، بل لكونه كان مجمع اعتبارات جاذبة، استقطبت وراء وصول قيادته أوسع القطاعات الشعبية الفلسطينية وامتداداتها التحالفية والتعاطفية على مستوى العالم كله، فصار إلى جانب قيادته الفعلية للثورة رمزا وعنوانا لها.. لتسري ظاهرته على مستوى شعوب العالم سريان النار في الهشيم، ولترتدي الملايين كوفيته الشهيرة كتعبير عفوي وتلقائي عما تمثل الكوفية ويمثل صاحبها.
الوصول إلى القمة أسهل بكثير من الاحتفاظ بها.
كان الفلسطينيون بحاجة إلى نمط زعامي مختلف عن كل من سبقه في احتلال موقع القمة، فوجدوا في لابس الكاكي وحامل البندقية ضالتهم المنتظرة، وكان الظرف الذي ظهر فيه مواتيا تماما لملء فراغات فلسطينية وعربية.
فملأت الرصاصة الأولى فراغ الفعل الفلسطيني، وهيأت هزيمة حزيران إلى اعتماد البديل على المستوى العربي، وعزز ذلك معركة الكرامة التي سجلت الانتصار الأول بعد الهزيمة الكبرى. ولم يكن مجرد رد فعل دعائي، ذلك الشعار التاريخي الذي أطلقه زعيم الامة جمال عبد الناصر. "أن الثورة الفلسطينية وجدت لتبقى".
احتل ياسر عرفات رسميا وقانونيا وفعليا ودون اختلاف الموقع الأعلى أي رئاسة منظمة التحرير التي كانت بمثابة إطار جبهوي مجمع عليه وبوسعنا اعتبار مكانته الجديدة بداية المرحلة الأهم في قيادته.
وإذا كان طريق الصعود ممهدًا إلا أن عمل الرئاسة والقيادة لم يكن كذلك.. إذ دخل الرجل والثورة سلسلة معارك من أجل البقاء، فخسر ساحات هامة وكسب ساحات بديلة، وما خسر تحول من ميزة له إلى عبء عليه، وما كسب كان الاحتفاظ به مكلفا لثورته وشعبه، إلا أنه ومن معه راكموا رغم الخسارات البشرية والجغرافية رصيدا سياسيا أدخل الثورة وقائدها إلى قلب المعادلات الإقليمية والدولية.
لم يكن ذلك ليحدث لو لم يكن عرفات يتمتع بخصائص قيادية مميزة، وخصوصا على صعيد إدارة بيت الثورة الداخلي وللثورة بيوت كثيرة يتعين على من يحتل مركز القيادة للحالة بشمولها ان يعالج شؤونها جميعا..
أولها البيت الفتحاوي الذي كان ممتلئا بالقادة الكبار الاذكياء والمؤهلين والذين يسمون بالمؤسسين التاريخيين، وحولهم صف ثان لا يقل تأهيلا وكفاءة، وفي الدائرة الاوسع حين كانت فتح تنمو باضطراد عالي الوتيرة، كان شبابها ذكورا وإناثا حتى اطفالها الذين أقيمت مؤسسة فعالة من أجلهم "الأشبال" يرفدونها بكل مقومات الحياة والقوة والتغلب على التحديات.
وإلى جوار البيت الفتحاوي كانت بيوت نشطة وفعالة تتوالد باضطراد هي ما اصطلح على تسميته بالفصائل والقوى، وكان عليه ومن موقعه كقائد للجميع أن يرعى صيغة توفر وئاما بين كل هذه البيوت ..
لم تكن الفصائل في تلك المرحلة هينة ولا سهلة القياد، ورغم كل الصعوبات التي لا مفر منها للتعامل مع قادة كبار، إلا أن الرجل ومن معه نجحوا في صياغة معادلة صحيحة وفعالة في الحفاظ على مستوى من الوئام والتفاهم والتحالف، وصفها ياسر عرفات بديموقراطية البنادق ووصفها جورج حبش بأبلغ ما وصف به ياسر عرفات " نختلف معك ولا نختلف عليك"
ومن خلال وضع داخلي متماسك في الإطار الأوسع منظمة التحرير.
ومن خلال المواءمة الدقيقة بين الجهد العسكري الصعب والسياسي الأكثر صعوبة مضت السفينة بقيادة ربانها في مسارها الصحيح، متجاوزة المضائق والانواء، وقوة الخصم وإمكانياته، فتكامل الحضور الفلسطيني بتكامل حلقاته الثلاث، الذاتية والعربية والدولية، ذلك أنتج مخاطبة العالم من أعلى منبر حيث اختزل عرفات فلسفة الثورة بجملته البليغة التي ما تزال على قيد الحياة "لقد اتيتكم وبندقية الثائر بيد وغصن الزيتون باليد الأخرى فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي".