غريب أمر لجان التحقيق الدولية والفلسطينية حول مقتل الرئيس أبو عمار حيث ينطبق عليها المثل الشعبي القائل: (شايف الذيب ويقص أثره)، فبعد 18 سنة على الجريمة وبالرغم من كل الأدلة والشواهد وحتى اعترافات إسرائيلية مبطنة بأن إسرائيل هي القاتل المجرم، فإن هذه اللجان وخصوصا اللجنة الفلسطينية تتهرب من التصريح رسميا بهذه الحقيقة وتنشغل وتشغل معها الرأي العام بالبحث عن عميل أو متواطئ فلسطيني مُفترض ساعد القاتل المسؤول الأول عن الجريمة على تنفيذ جريمته، وهي بهذا النهج وكأنها تبرئ إسرائيل من المسؤولية.
نعم كان هناك خصوم سياسيون كثيرون للرئيس أبو عمار حتى من داخل البيت الفلسطيني، يتآمرون لاغتياله سياسياً بالتحريض و الإشاعات والاتهامات الباطلة بالفساد وسوء الإدارة كما أن بعض الحكومات العربية لم تكن راضية عن أبو عمار وبعضها كان يتمنى غيابه عن مشهد الأحداث السياسية، و نستحضر في هذا السياق رفض القادة العرب السماح لياسر عرفات وهو محاصر في المقاطعة أن يلقي كلمة عبر الأقمار الصناعية في الجلسة الافتتاحية لقمة بيروت مارس 2002 كما أن كل الحكام العرب لم يجرؤوا حتى على الاتصال به في الأشهر الأخيرة من حصاره، إلا أن كل هؤلاء ما كانوا يفكرون باغتيال ابو عمار جسدياً،
إسرائيل وتحديداً رئيس وزرائها آنذاك شارون، هو الذي كان يفكر ويخطط لاغتياله وسبق أن حاولت إسرائيل ذلك عدة مرات واعترفت بذلك. شارون كان يسعى لاغتيال أبو عمار بعد فشل لقاء كامب ديفيد 2 ليس فقط لأن أبو عمار يريد العودة لنهج الكفاح المسلح بل لإصرار أبو عمار على السلام العادل ورفض الاستمرار بمهزلة أوسلو، ولأن أبو عمار كان الوحيد القادر على الحفاظ على الوحدة الوطنية والوقوف في وجه مخطط الانقسام.
مع شكنا في إمكانية معرفة المتواطئ لأنه إما مات طبيعيا أو اغتالته إسرائيل أو يعيش تحت حماية إسرائيل ودول أخرى، سنفترض أن لجنة التحقيق برئاسة توفيق الطيراوي توصلت لمعرفة المتواطئ في عملية الاغتيال واعترافه بمساعدة إسرائيل على تنفيذ جريمتها في هذه الحالة قد تقوم السلطة الفلسطينية بمعاقبة هذا المتواطئ وقد تعدمه، ولكن ماذا ستفعل السلطة الفلسطينية بإسرائيل؟ هل ستقطع العلاقات معها؟ أم تعلن الحرب عليها؟ أم ستشتكي إسرائيل عند محكمة الجنايات الدولية؟
كنا نتفهم سبب مماطلة القيادة الفلسطينية ولجان التحقيق في توجيه الاتهام رسميا لإسرائيل وقت وقوع الجريمة خوفا من التأثير على المفاوضات والعملية السلمية، ولكن وبعد ما آلت إليه الأمور من رفض إسرائيلي واضح لأي عودة لطاولة المفاوضات ورفض حل الدولتين وعودة نتنياهو للسلطة متحالفا مع الأكثر تطرفا منه لم يعد هناك أي مبرر للصمت عن جريمة اغتيال أبو عمار.
المشكلة في لجان التحقيق في جريمة اغتيال الزعيم القائد أبو عمار ليس في عدم توصلها لمعرفة القاتل بل في غياب الإرادة والقدرة على معاقبته، الرئيس أبو مازن وكثيرون يعرفون أن إسرائيل هي المجرم الحقيقي ويعرفون من ساعدها في جريمتها وكاد أبو مازن أن يفصح عن الحقيقة قبيل انعقاد المؤتمر السابع لحركة فتح إلا أن ضغوطا هائلة بل وتهديدات من أطراف عربية ودولية حذرته من عواقب كشف الحقيقة.
لو طبقنا القاعدة القانونية التي تقول إنه في كل جريمة أبحث عن المستفيد، فإن المستفيدين من جريمة تصفية أو عمار وغيابه عن المشهد السياسي كثيرون، وبغضهم مشى في مقدمة جنازته وما زالوا يشيدون بأمجاده ويحيِّون مناسبة وفاته.
ملاحظة: كلام اللواء توفيق الطيراوي رئيس لجنة التحقيق الفلسطينية عن قرصنة وثائق خاصة بالتحقيقات في اغتيال أبو عمار غير مقنع ولا يبرئ اللجنة من تهمة التقصير، فلماذا لم يتم الإفصاح عن الوثائق قبل قرصنتها؟ وحتى إن تم قرصنتها ألا يعلم رئيس اللجنة والأعضاء بمحتوى هذه الوثائق؟ وهل القول بقرصنة الوثائق يعني إغلاق ملف التحقيق بشكل نهائي؟