أحيا الشعب الفلسطيني قبل يومين ذكرى رحيل القائد الشهيد ياسر عرفات. ولقد لاحظت أن معظم، إن لم يكن جميع، من خطبوا أو كتبوا استخدموا في خطاباتهم وكتاباتهم مصطلح "إرث ياسر عرفات" بمعنى تراث ياسر عرفات Legacy ولقد وقفت كثيرا عند هذا المصطلح وعند من تغنوا به وبالحفاظ عليه وأنا أسائل نفسي عما اذا كنا بالفعل قد حافظنا على هذا الإرث أم لا.
لن أطيل الحديث عن إرث ياسر عرفات ولكنني سأتوقف عند بعض المحطات للتحقق مما أنا بصدده.
وأبدأ بالإشارة الى أن ياسر عرفات بدأ حياته ثائرا ً مقاوما ً سواء مع الفدائيين المصريين المناضلين ضد الانجليز بمنطقة قناة السويس أو كأحد مؤسسي حركة فتح ورائد المقاومة الفلسطينية الذي لم يتخل عن مسدسه ولا عن ارادته القتالية حتى آخر يوم في حياته. وهكذا لا بد من البدء بالقول بأن العمود الفقري لإرث ياسر عرفات هو المقاومة بأشكالها المختلفة. فهل أبقينا على هذا الإرث؟
حين دخل ياسر عرفات مسار أوسلو كان يصر على وحدة الضفة والقطاع. وأذكر قبل مجيئه الى الوطن أني كنت في سفارة فلسطين بعمان ننتظر وصوله. وعندما وصل وكنت في المدخل مع المرحوم الطيب عبد الرحيم أمسك أبو عمار بيدي واقتادني الى غرفة جانبية عند المدخل وكنا بمفردنا وقال لي: غزة أريحا. يجب التركيز على ترابط غزة أريحا. لا حديث إلا عن غزة أريحا. ثم خرجنا..
وفي مناسبات عديدة لاحقة كان أبو عمار يكرر القول بأنه قَبِلَ أن تبدأ العملية بمنطقة صغيرة في الضفة ولكن مرتبطة بتوأمها في القطاع للتأكيد على وحدة الضفة والقطاع. بل وعندما كان الحديث في وقت لاحق عن إعادة الانتشار في قطاع غزة طالب أبو عمار أن تكون إعادة الانتشار في قطاع غزة مرتبطة بإعادة انتشار مماثلة في بعض قرى جنين تأكيدا ً على الترابط العضوي بين الضفة والقطاع. فهل حافظنا على هذا التراث وتمسكنا بوحدة الضفة والقطاع أم أننا رسبنا عند أول امتحان بعد رحيله بأربعة أعوام فقط في حزيران 2007؟
ولقد كان ياسر عرفات مسكونا ً بحلم الدولة وحين خاض المفاوضات كان الإسرائيليين يصرون على أن يكون هناك مجلس للحكم الذاتي يتم انتخابه ويتكون من خمسة وعشرين شخصا ويكون هو نفسه الحكومة والجهة المخولة بإصدار التشريعات التي تخضع للرقابة الإسرائيلية ولا تتناقض مع الأوامر العسكرية الإسرائيلية. وكان ياسر عرفات يصر على رفض ذلك المقترح ويطالب بالفصل بين السلطتين التنفيذية والتشريعية وبأن يكون هناك برلمان منتخب منفصل عن الحكومة، ولا مانع من أن يكون بعض أعضاء الحكومة أعضاء في المجلس التشريعي مع الإصرار على الفصل بينهما.
وظل يكافح ويجادل اسحق رابين واستطاع في احدى الليالي العاصفة في طابا أن ينتزع منه قبولا بالفصل بين السلطتين، ثم ظل يجادل ويصر على زيادة العدد فوق الخمسة وعشرين عضوا ً الى أن وصل الى ثمانية وثمانين بحجة أن ذلك هو مجموع عدد نواب الضفة في البرلمان الأردني مضافا ً إليه عدد أعضاء المجلس التشريعي الذي كان موجودا ً في قطاع غزة في عهد الحكم العسكري المصري. وكان عرفات يحدثنا عن تلك المفاوضات المريرة ليخلص الى القول بأنه فعل ذلك لأنه يريد أن يؤسس لدولة وأن الدولة لا تقوم إلا بوجود سلطات ثلاث: التشريعية والقضائية والتنفيذية مع احترام مبدأ الفصل بين السلطات. وتم تتويج ذلك بانتخاب المجلس التشريعي الأول في كانون ثاني 1996 والذي أثبت فيما بعد بأنه شب على الطوق ولم يتقيد باتفاق أوسلو ولم يقبل أية قيود على صلاحياته التشريعية ولم يُعر أي اهتمام للأوامر العسكرية التي شرعها الاحتلال قبل قيام السلطة، بل ألغى العديد منها بحكم الأمر الواقع.
هذا هو إرث ياسر عرفات. التأسيس لدولة. تثبيت وجود سلطات ثلاث. تطبيق مبدأ الفصل بين السلطات، احترام استقلال السلطة القضائية. فأين نحن اليوم؟ وهل احترمنا وحافظنا على إرث ياسر عرفات أم أنه تم إلغاء السلطة التشريعية وأعطيت صلاحياتها للسلطة التنفيذية وفُتح الباب على مصراعيه أمام تدخل السلطة التنفيذية في شؤون السلطة القضائية، لنجد حلم الدولة يفقد مقوماته الأساسية ويُدار من خلال سلطة واحدة لا سلطات ثلاث. أهذا هو إرث عرفات؟
لقد كان عرفات هو القائد الذي قد يختلف معه البعض ممن حوله، ولكنهم لا يختلفون عليه لأنه كان القاسم المشترك بين الجميع ولأنه كان الأب للجميع والوعاء والحاضنة التي احتوت الجميع فوجد كل واحد نفسه داخلها وفي ظلها. فهل ما زال هذا الإرث القيادي هو الذي يحكم العلاقة بيق قيادات وكوادر فتح، وبينها وبين قيادات وكوادر الفصائل الأخرى؟ الجواب أتركه للقارئ الفطن.
هذه هي بعض الأمثلة من تراث ياسر عرفات وهو من المقومات التي جعلت منه القائد الرمز الخالد.
لقد استمعت باهتمام الى الكلمة التي وجهها الأخ الرئيس محمود عباس الى الجماهير التي احتشدت في ساحة الكتيبة بغزة لإحياء ذكر الشهيد الراحل. ولقد أكد الرئيس عباس أمرين هما صلب ما يجب عمله. الأول هو حُرمة الانقسام. "الانقسام حرام" هذا ما قاله. ثم أضاف بأنه مستعد لدفع أي ثمن لإنهاء الانقسام وإعادة الوحدة الجغرافية والسياسية والإدارية بين الضفة والقطاع، وهذا هو بالضبط أحد الأعمدة الرئيسية لإرث ياسر عرفات.
الحفاظ على تراث ياسر عرفات يتطلب العمل وفق هذا التراث لا التغني به بترديد الشعارات البراقة الخالية من أي مضمون.
فلنأمل أن تكون هذه المناسبة هي نقطة الانطلاق نحو احترام إرث ياسر عرفات باحترام الوحدة بين الضفة والقطاع وبإنهاء الانقسام والعودة الى حضن الوطنية الفلسطينية، وليكن احترام إرث ياسر عرفات بإعادة السلطات الثلاث من خلال اجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية ولو على مرحلتين، وإعادة احترام هيبة القضاء ووقف الحالة العبثية والمذبحة التي يتعرض لها.
وليكن احترام إرث عرفات من خلال العودة الى قانون المحبة وأخوّة النضال بإعادة الوحدة والانسجام وتحقيق المصالحة داخل البيت الفتحاوي أسوة بتحقيق المصالحة وإعادة الانسجام والعمل المشترك بين مختلف ألوان الطيف السياسي الفلسطيني وفي مقدمتها حركة حماس.
فلنأمل، رغم اليأس الشديد الذي يُحبطنا، بأنه ما زال هناك من يحترم تراث ياسر عرفات بالفعل لا بالقول، وأننا لن نكون ممن وصفهم الله بقوله في سورة الصف، آية 3: "كَبُرَ مَقۡتًا عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُوا۟ مَا لَا تَفۡعَلُونَ ".