أحياناً تحتاج الكتابة لقدر من السخرية في تناولها لتلك المعايير المختلة التي تتعامل بها دول تضع نفسها في موقع الأستذة القيمية تجاه العالم، خصوصاً دول العالم الثالث.
وكم يبدو الأمر مدهشاً عندما تقترب تلك المثل من تناقضها مع المصالح، إذ تتحول المثل والقيم إلى خرق بالية دون أن تقدر أن العالم يعي ويراقب ويراكم حجم الغرابة، خصوصاً في الدول غير الغربية التي تتعرض للانتقادات في كل شيء، ليس لسبب سوى أن هناك حضارة أرادت تمييز نفسها عن الآخرين، ووضع ثقافتها كمعيار وحيد دون أي اعتبار لثقافة وحضارة غيرها.
لم يخلُ الهجوم على مونديال قطر والدولة المضيفة التي اجتهدت لتقدم للعالم مستوى يتجاوز حتى بعض ترتيبات في دورات سابقة، من تلك النظرة الاستعلائية التي لم تكن خافية حتى على رئيس الفيفا، ومكشوفة لدرجة فاقعة محملة بإرث طويل من التعامل الفوقي مع العربي الذي صوّرته الثقافة الغربية كبدائي ومتوحش. لكن التناقض في السلوك العام كشف ما هو أبعد.
قبل أربع سنوات جرى المونديال في روسيا، وكانت قد ضمت جزيرة القرم بالقوة ورغماً عن أوروبا، ومنعت روسيا اللاعبين وفقاً لما هو سائد في كل الدورات من شرب البيرة في الملعب، ومنعت رفع أي شعار للمثليين، ولكن لأنها روسيا لم يملك أحد حينها من دعاة حرية الرأي تلك الجرأة التي ظهرت فجأة في قطر.
الفريق الألماني الذي أحدث كل هذا الصخب في إظهار دعمه للمثليين، وتصوير الدولة القطرية بأنها ضد حرية الرأي - وهو ما فعلته الوزيرة الألمانية - يحتاج إلى وقفة؛ لأن ألمانيا بالذات لا يحق لها الحديث حول حرية التعبير، على الرغم من أنه كان بإمكان فريقها أن يرفع أي شعار ويدفع الغرامة الموجبة وهي ثلاثة ملايين دولار. فالعقوبة بالغرامة وليس الطرد، لكن الفريق والوزيرة لا يريدون أن يدفعوا ثمن دفاعهم عن حريتهم، وهذا وحده يكشف سخرية الأمر.
في شباط الماضي، قامت إذاعة الدوتشيه فيليه الألمانية بفصل خمسة صحافيين بتهمة معاداة السامية؛ حين عبّروا في صفحاتهم الخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي عن رفضهم للاحتلال الإسرائيلي وانتقدوا ممارساته، وألمانيا هي نفسها الدولة التي فصلت فيها أوركسترا ميونيخ المايسترو الروسي فاليري غيرغييف بعد الحرب الروسية الأوكرانية. ولم تعتبر في تلك الأمثلة وهي كثيرة أن في هذا حرية تعبير.
ما ينسحب على ألمانيا ينسحب على غيرها من الديمقراطيات الأخرى التي تتمدد لديها قيم الحرية، عندما تتوافق مع مصالحها، وتنكمش تماماً حين تتعارض مع تلك المصالح. والأسوأ أن الخطاب المصاحب لا يخلو من تلك النظرة الفوقية، في وقت بدأ العرب في الآونة الأخيرة يستعيدون ثقتهم بأنفسهم، ويحولون الإمكانيات الاقتصادية إلى فعل سياسي، فتجربة النفط وعدم الاستجابة للطلب الأميركي والرئيس الأميركي، ورفض اللقاءات مع مبعوثيه كان يعكس قدراً من تلك الثقة.
جاءت النجاحات العربية المفاجئة في المونديال لتزيد من تلك الثقة، بدءاً من القدرة على تنظيم الحدث ورعايته في الدوحة. والمفاجأة الأبرز فوز السعودية على دولة تمتهن كرة القدم وتضم أشهر لاعب على مستوى العالم، وهو ما كان هدية الفريق السعودي للعرب جميعاً الذين وجدوا نفسهم يصطفون خلفها فرحاً وفخراً بمعجزة فوز فريق عربي، ثم تتعادل تونس مع الدانمارك وبعدها المغرب بنديّة أمام فريق وصل للنهائي قبل ذلك.
بعض الآراء التي تحمل إرث الثقافة الاستعلائية، والتي استكثرت على العرب تحقيق تلك النجاحات، ذهبت للغمز من اتجاه المناخ. فالعرب لعبوا في مناخ الشرق الأوسط المناسب وغير الملائم للفرق الغربية، وفي هذا ما يرد بنفس المنطق عن ملاءمة المناخ الأوروبي للفرق العربية وسبب إخفاقاتها الماضية، لكن الأمر غير ذلك.
الأزمة التي كشفها المونديال كحدث يجري أول مرة في دولة عربية هي أزمة الثقافات. وبصرف النظر عن تناقض البعض مع ذاته وقيمه في أحداث كثيرة، فالأمر هنا في محاولات تنميط العرب وفرض منظومة قيمية ليست جزءاً من ثقافتهم وتراثهم وهويتهم، بل في الهوية العربية تعتبر المثلية نقيصة للرجل. وهي معايير أنتجتها ثقافة متراكمة لآلاف السنين من رومانسية الشرق وقصص العشق وحروب الصحراء والسيف. وبالمناسبة فقبل فترة كان هناك خطاب للرئيس الروسي هاجم فيه المثلية، وتبنى النواب الروس الخميس الماضي تعديلات توسع إلى حد كبير نطاق تطبيق قانون يحظر «الترويج» لمجتمع المثليين. لكن ألمانيا كأنها لم تسمع.. فهذا بوتين وليس زعيماً عربياً وهذه روسيا.
في أوروبا يمنع رفع علم فلسطين في الملاعب، ويتقدم شعار «لا لتسييس الكرة»، لكن بعدها مباشرة يرفع علم أوكرانيا في الملعب، ويمنع رفع شعارات فلسطين، ولكن يسمح رفع شعارات المثليين.. هكذا تبدو حرية الرأي بأوضح صورها، وتظهر ازدواجية المعايير لتختصر كل ما يمكن أن يقال في كتب كانت تكفي لقطة واحدة لكشفها،
والأهم من كل هذا دوماً ما يعرف بأن الرياضة انعكاس لقوة المجتمع ومستوى أبنائه، ولم يكن من المصادفة أن كان العرب يهزمون في فترات سابقة بما ينسجم مع موقعهم ومكانتهم الدولية. فالرياضة تشبه السياسة وتشبه التعليم وغيرهما وهذه المرة لم تكن مصادفة أن يتقدم العرب في الرياضة بنفس الوتيرة الهادئة في السياسة. فالأشياء لا تنفصل عن بعضها بل تسير بنفس الوتيرة، هناك تطور للأداء العربي وأكثر ثقة بنفسه لا تهزه المزاودات المكشوفة.