خرجت ثلاثة فرق عربية من مسابقات المونديال، وبقي فريق المغرب يمثّل العرب جميعاً في المراحل الأكثر إثارة. في الرياضة يبدو منطقيّاً فوز فريق استُبعد من التقديرات المسبقة، وخسارة فريق رشّحته التقديرات للظفر بالبطولة. وهذا ما حدث للعديد من أبطال العالم التقليديين:
- إيطاليا التي أُقصيت عن المشاركة أصلاً.
- ألمانيا التي خرجت من الدور الأول.
- الأرجنتين التي هزمتها السعودية.
- فرنسا بطل العالم هزمتها تونس.
حصان أسود وحروب
ما زالت الملاعب مفتوحة أمام حصان أسود ربّما يتجاوز كلّ التقديرات المسبقة ويفوز، وأضحى منطقياً أن يقول مدرّب الفريق العربي الباقي إنّ من حقّه أن يحلم ببطولة المونديال.
خارج الدوحة بقي العالم على حاله، وبقي الموت اليوميّ سمة معادلات القرن الحادي والعشرين: حروب بينيّة، حروب إقليمية، حروب دوليّة، وحروب اقتصادية. وكأنّ العالم قسّم وقته إلى قسمين: ساعات قليلة للمتعة وأخلاقيّات الروح الرياضية، وما بقي من ساعات كثيرة فللاقتتال ولأسوأ ما تنتجه الغرائز.
ما زالت الملاعب مفتوحة أمام حصان أسود ربّما يتجاوز كلّ التقديرات المسبقة ويفوز، وأضحى منطقياً أن يقول مدرّب الفريق العربي الباقي إنّ من حقّه أن يحلم ببطولة المونديال
ولأنّ المونديال يقام على أرض عربية، وشاركت فيه أربعة فرق عربية مثّلت الشطر الآسيوي مناصفة مع الشطر الإفريقي، فقد حمل الكثير والعميق من الدلالات السياسية التي صنعها مئات ملايين العرب الذين مثّلهم اللاعبون.
الملاحظ أنّ العرب تعاملوا مع فرقهم الأربعة كما لو أنّها فريق واحد وبلا استثناء: مع قطر حين لعبت المباراة الافتتاحية، وانتقلوا في اليوم التالي لمتابعة ودعم الفريق السعودي، ومنه إلى التونسي ثمّ المغربي.
رياضة قوميّة
كان الملايين يتابعون المباريات العربية بعواطفهم التي أخمدتها السياسة فأيقظتها الرياضة. وحين كان فريق عربي يلعب كان العرب جميعاً ينسون هويّاتهم الإقليمية، ويتذكّرون هويّتهم القومية. وإذا ترجمنا هذه الظاهرة إلى سياسة فهي تقول للنظم والقوى الحاكمة والمتحكّمة والمتورّطة في حروبها الداخلية والإقليمية: ما زال الرصيد القومي في نفوس الملايين هو الأبقى والأعمق والأشدّ تأثيراً. أمّا الأرصدة الأخرى فأرقام ومعادلات سطحيّة وحسب لا تقود إلّا إلى مزيد من الخسارة.
لو قيل هذا الكلام في زمن غير زمن المونديال لوُصف بأنّه أضغاث أحلام لا أساس لها في الواقع. لكن حين يبكي سعوديّ من التأثّر بفوز فريق عربي آخر، فيبدو أنّ هذه هي الحقيقة الإيجابية الباقية في حياتنا وواقعنا وأعماقنا.
الوحدة الشعبية التي ظهرت في المونديال بأعمق وأرقى تجلّياتها لا يعيبها أنّها وحدة عاطفية تجسّد إدانة صريحة للواقع الرسمي العربي. فنحن أمّة أو شعب أو مجتمع فرض سياسيّوه عليه أن ينقسم مناصفة بين مأساة راهنة يعيشها ومأساة ينتظرها، بين خطر يقضّ مضاجع الناس حتى داخل بيوتها، وخطر يقف خلف الأبواب والنوافذ منتظراً ساعة الانقضاض.
فصام مدمّر
نحن العرب نعيش انفصاماً مدمّراً: بين مئات ملايين من البشر تجمعهم من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق لغة واحدة وحلم واحد وعقيدة واحدة، وبين أنظمة امتهنت الاقتتال فيما بينها ومع مجتمعاتها، ولا تجد وسيلة للبقاء على قيد الحكم والتحكّم إلا إذا جاءت بها من وراء الحدود.
أظهر المونديال "العربي" أفضل ما بقي لدى هذه الأمّة. وهو هذا السموّ الشعبي فوق الصراعات الرسمية. وهذا التوق الجارف إلى رؤية أمّة تتبوّأ مكاناً لائقاً بين الأمم. والسؤال الذي يدور في نفوس مئات ملايين العرب: متى تفعل السياسة فينا ما فعلته الرياضة؟ الله أعلم.